الثلاثاء، 9 يناير 2018

"إسلام بلا خوف".. خطوات نحو التنوير

"إسلام بلا خوف".. خطوات نحو التنوير

تعددت رؤى المثقفين حول مفاهيم "التنوير" كقيمة حضارية ومشروع ظل يرنو إلى تحقيقه كل المخلصين المهتمين، كما اختلفت زوايا تناولهم للمفهوم باختلاف توجُّهاتهم ومرجعياتهم.

لعل الفيلسوف الألماني الشهير "كانط" كان من أوائل مَن حرَّروا المصطلح مجرداً؛ بأن عنى به: الجرأة في إعمال العقل، وبالتالي الجرأة في إقصاء الأوصياء على العقل الذين يقتلعون عقل الإنسان من جذوره، ويضعون بدلاً منه عقلاً مزيفاً قابلاً للخضوع لما يبدونه من آراء من غير قدرة على النقد، وهؤلاء الأوصياء يصنعون بذلك عقولاً "دوغماطيقية"؛ أي عقولاً تتوهم امتلاك "دوغما"، وهي الحقيقة المطلقة.

من هنا برز "التنوير" كمشروع يعتمد إعمال العقل، كما ظل عبر العصور دور "التنويريين" في مواجهة تلك العقول التي تتوهم امتلاك الحق المطلق، والتي تصنع بجمودها أفكاراً تكتسب مع مرور الزمن صفة القداسة، فيأتي أولئك "التنويريون" ليكتشفوا الزيف، وليحطموا الأصنام تماماً كما كان دأب الخليل إبراهيم مع قومه.

يقول المفكر والفيلسوف محمد إقبال:
نَحتُ أصنام آزر صنعة العاجز الذليل
والذي يطلب العلا حسبه صنعة الخليل

في الوسط الإسلامي تتابعت دعوات "التنوير" على مدى قرونه الهجرية الأربعة عشر؛ فأخذت شكل الإصلاح حيناً، ونهجت طور التجديد حيناً آخر، فيما ظل الاجتهاد باباً مفتوحاً لكل مفكر وعى أبعاد واقع زمنه جيداً وتترَّس بأرض صلبة من علوم الشرع الحنيف؛ لينهل من معين الإسلام الذي جعله الله صالحاً لكل زمان ومكان.

في العقود الأربعة الأخيرة برزت داخل إطار مدرسة الوسطية الإسلامية مجموعة مفكرين حملت على عاتقها مسؤولية "التنوير" وترشيد "الصحوة الإسلامية" التي أرسى دعائمها في القرنين الأخيرين دعاة ومصلحون، بدءاً من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مروراً برشيد رضا ومحب الدين الخطيب، وصولاً إلى حسن البنا وعبد القادر عودة وسيد قطب.

سلَّط الضوء على أعمال هؤلاء المفكرين د. ريموند ويليام بيكر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ترينيتي الأميركية والباحث في الشأن الإسلامي المصري، الذي اختار في كتابه "إسلام بلا خوف.. مصر والإسلاميون الجدد" ستاً من أبرز دعاة ذلك التيار الفكري التنويري هم: (الفقيه الدستوري أحمد كمال أبو المجد، والمستشار طارق البشري، والشيخان محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، والمحامي محمد سليم العوا، والكاتب الصحفي فهمي هويدي)، وتناول بالدراسة مجهوداتهم في الربع قرن الأخير الذي سبق تدوينه للكتاب في عام ٢٠٠٣ م.

عَرَض الكاتب معالم ذلك المشروع الفكري في ستة عناصر هي: (إصلاح التعليم والاحتفاء بالفنون وبناء الجماعة الوطنية وإقامة نظام اقتصادي والكفاح من أجل تجديد الفقه السياسي الإسلامي والتفاعل مع حركة العالم)؛ ضمن ثلاثة مجالات شكلت أعمدة رئيسية لمشروعهم هي: (الثقافة والمجتمع والسياسة).

كانت أفكار تلك المجموعة صادمة بشكل كبير لأبناء الوسط الإسلامي الذي ألِف اجتهادات فقهية توارثتها الأجيال عبر القرون المتتالية؛ فقد أجمل أولئك "الإسلاميون الجدد" الشريعة في ثلاثة أمور هي: (النصوص، وفهم تلك النصوص، والتجارب التاريخية لتطبيقها في الواقع)، وكان الأول وحده عندهم هو الملزِم، أما الفقه والممارسة فهما عندهم مجالان رحبان يسعهما الاجتهاد، وبالتالي فهما غير ملزمين بأي حال؛ يُقبل منهما ما ناسب العصر ويُردُّ منهما ما تعارض معه.

تلك المدرسة "المقاصدية" التي عَنَت بجوهر الشريعة ومقاصدها العليا والتي أطلق عليها الكاتب مدرسة "الإسلام الحضاري" -في تمييز بينها وبين مدرسة "الإسلام السياسي- كانت قد لقت هجوماً علمانياً من متطرفين وجدوا في دعاتها التفافاً على الحياة المدنية التي توهموا احتكارها، فيما رحَّب بعض المعتدلين منهم بالقواسم المشتركة مع تلك المدرسة الإسلامية الوسطية.

تعرَّض ذلك التيار الفكري لنقد لاذع على صعيد "الإسلاميين"، واعتبر بعضهم أن في تلك الأفكار ضياعاً للشريعة الإسلامية وتفريطاً في الثوابت وشرعنة للاستبداد والتغريب؛ ففي كتابه "عصر الإسلاميين الجدد" تحدث د. وليد الهويريني عن دعاة "التنوير" بأنهم حينما استهدفوا المواءمة والتوفيق بين نصوص الشرع ومعطيات الحضارة الغربية قد عارضوا "قطعيات الشرع"، ومنها ما قالوه في جواز تولّي المرأة وغير المسلم منصب حاكم المسلمين، ومنها قَصْر مفهوم الجهاد في الإسلام على "الدفع"، ومنها إطلاق أولئك المفكرين القول بعدم العقوبة على الآراء الباطلة، ومنها قولهم بإبدال المواطنة محل الذمة، ومنها دعوتهم لإلغاء الذمة كصورة تحكم العلاقة بين المسلم وغيرها مما اعتبره الكاتب من "ثوابت الدين" التي بدَّلوها!

استند الكتاب أيضاً في هجومه على أفكار "التنويريين" إلى أن تلك الأفكار محل ترحيب ودعم من الحكومات الغربية ومجتمعاتها التي تعادي الإسلام وتهاجم شريعته، كما أن في تزكية مراكز الأبحاث الأميركية لذلك التيار الفكري شبهات تتعلق بنزاهة تلك الأفكار واستقلاليتها.

للإسلاميين الجدد آراء واجتهادات في بحر الفقه الإسلامي المعاصر، وتلك الاجتهادات تنطلق من كونهم:

أولاً: وصَّفوا المجتمع من حولهم بالمسلم الذي ربما يلتزم بدينه حيناً بينما يُقصِّر حيناً آخر، ولكنهم أبداً لم ينعتوا بُعده عن الالتزام بالدين بـ"الجاهلية".

ثانياً: ينظرون إلى الحكومات المتعاقبة -مهما طغى استبدادها- بعين الوطني الناصح الذي يبحث بانتظام عن أرضية مشتركة يمكن تكريسها عبر الزمن، بدلاً من شعارات جوفاء تدعو لتطبيق الشريعة أو مزايدات واستغلال للأزمات من أجل الضغط لتحقيق مطالب سياسية.

ثالثاً: يعتبرون أن النهضة تعتمد على التفاعل بين كل قطاعات وعناصر الأمة؛ إذ لا يمكن لفريق وحده أن يتحمل ذلك العبء.

رابعاً: يدركون جيداً أبعاد الواقع في إطار إلمام جيد بعلوم السياسة والاقتصاد والفلسفة والتاريخ، ومن قبله وعاء علوم شرعية عميق.

خامساً: يختلفون عن غيرهم من الإسلاميين المعتدلين في ترتيب سلم الأولويات ضمن نظريتهم للتغيير؛ فهم يولون الإصلاح المجتمعي أهمية أكبر عن نظيره السياسي، ويعتقدون في التعليم والفنون وأمور الثقافة صمام أمان يحفظ على الأمة تراثها وحضارتها، وليس في مجرد استبدال نظام سياسي بآخر يفضله.

سادساً: يُميّزون بجلاء بين الأمة السياسية التي تجمعها حدود الأرض وبين الأمة الدينية التي يجمعها رباط العقيدة وما يترتب على الأمر من أحكام شرعية يسعها الاجتهاد.

سابعاً: يدركون جيداً مقامات الخطاب النبوي التي تتعدد بين كونه صلى الله عليه وسلم مبلّغاً رسولاً أو قاضياً بين المتنازعين أو مفتياً فقهياً لخاصة آحاد المسلمين، وبين خطابه صلى الله عليه وسلم وتصرفاته بحكم كونه إماماً للمسلمين، وقائداً سياسياً يدبّر لهم أمور معاشهم، وما للمقام الأخير من صفات ميَّزها الاجتهاد البشري.

ثامناً: لديهم إجابات محددة وواضحة عما تعنيه الشريعة، وما يعنيه تطبيقها تحت مظلة مقاصدها العليا، وهو الأمر الذي يدركون جيداً معه ما أمرت به الشريعة مفصَّلاً، وما نزلت به مُجملاً، وما سكتت عنه من أمور العفو.

تاسعاً: فرقوا بوضوح بين ثوابت الشرع ومتغيرات السياسة، وعلى مستوى الشرع فإن دائرة الثوابت عندهم محصورة في أمور العقيدة وما كان قطعي الثبوت والدلالة من النصوص، أما ما عداها فهو من المتغيرات.

عاشراً: ينظرون للعالم من حولهم كدار للدعوة، وليس أرضاً للخصومة والنزاع والصراع، وبالتالي فإن دعوات استعادة الأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزائر بحر الروم وغيرها من البلدان التي حكمها المسلمون في ظرف تاريخي معين؛ فإن تلك الدعوات الناعقة تغيب عن أفكار ذلك التيار الفكري الذي ينأى بمجتمعات المسلمين عن تلك الحروب الكونية، كما أن نظرتهم للعالم من حولهم نظرة تفاهم وتكامل، والحضارة الإسلامية على عظمتها إنما هي جزء من الذاكرة التاريخية لبني الإنسان.

اقتنعت بتلك المدرسة المقاصدية شريحة نخبوية ليست باليسيرة، أيضاً دعمتها قاعدة جماهيرية معقولة، فيما تباينت حول أفكار رموزها وجهات النظر، وربما اختلف بعض مفكريها في بعض تلك النقاط؛ لكن الخيط الناظم لذلك التيار الفكري قد أرسى تلك المنطلقات الفكرية كحبات عِقد اجتهاد إسلامي تنويري معاصر يأمل نهضة أمة عانت عهداً طويلاً من الجمود الفكري الذي أصابها بالتخلف والانحطاط.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/hamza-mohsen-hussein-/-_14628_b_18960798.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات