الثلاثاء، 23 يناير 2018

ثورة الزنوج.. صفحة منسية من التاريخ الإسلامي

ثورة الزنوج.. صفحة منسية من التاريخ الإسلامي

لهف نفسى على قصور ببغداد *** وما قد حوته من كل عاص
وخمور هناك تشرب جهراً *** ورجال على المعاصي حراص
لست بابن الفواطم الزهر إن لم *** أقحم الخيل بين تلك العراص
علي بن محمد - صاحب الزنج

لا يمكن أن نناقش التغيرات السياسية والفكرية في مجتمع ما دون أن نتطرق لأثر الطبقية في هذا المجتمع، فالأفكار كالبذور لا تنمو وتزدهر إلا إن صادفت بيئة ملائمة، وكل فكرة تحتاج لتنتشر ويكون لها أثر واقعي أن تلقى قبولاً من أفراد معينين بالمجتمع، وبحسب موضع هؤلاء الأفراد في التركيبة الطبقية ونسبتهم في تكوين الطبقة المنتمين إليها وموضعهم بها، يكون حظ هذه الفكرة من الازدهار أو الاختفاء.

وعندما صعدت البرجوازية العربية في عهد الأمويين، وأصبح العرب يسكنون القصور ويملكون الضياع، صعدت معها أفكارها واختياراتها الفقهية والسياسية، فأصبحت الملكية الوراثية النمط المفضَّل للسلطة، واعتبرت فكرة الشورى تحريضاً على الفتنة وصعدت الاختيارات الفقهية التي تحض علي الطاعة والتعاون مع السلطة، وترفض مقاومتها، مع صعود نموذج الدولة الحامية التي تقتصر وظيفتها على حماية أمن الأفراد، ولا تتدخل في حرياتهم الاقتصادية والشخصية وليس لها من بُعد ديني ولا سمت أخلاقي حتى، فلا تحاول أداء وظيفة دينية أو الحفاظ على أخلاقيات المجتمع، ولكن على أمنه وبصفة خاصة أمن الطبقات الأكثر ثراء منه.

فسرعان ما تحولت الطبيعة التكافلية التشاركية لجماعة المسلمين في عهد الرسالة؛ حيث كان يطبق قول الرسول: (من كان معه فضل ظهر فليعُد به على مَن لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعُد به على من لا زاد له)، ويجمع الناس طعامهم في صعيد واحد فيذوق كل منهم من طعام أخيه بلا تمييز إلى ذكريات وحكايات.

وسرعان ما تمايزت الطبقات في هذه الدولة الجديدة، وبينما عرف العرب في المدن والأمصار ترفاً وثراء لم يكونوا يتخيلونه في أشد أحلامهم جموحاً، وظهرت الأرستقراطية العربية مع استقرار الأمر لسلالة الأمويين كانت الغالبية العظمى تقاسي الفقر والفاقة، وتزداد الهوة بين الطبقات اتساعاً ونمت الأحقاد بين الأعراب والموالي، وشاعت في أوساطهم أفكار وعقائد الحركات الثورية المتعددة، وأصبحوا معيناً لا ينضب لحركات الشيعة والخوارج وكافة الأفكار الشاذة والمتطرفة، بداية من حركة المختار الثقفي والاضطرابات العنيفة في العراق، وفي نهاية الدولة الأموية ظهرت ثورة الحارث بن سريج الذي ادعى أنه المهدي المنتظر، صاحب الرايات السوداء التي تخرج من خراسان، كما ورد في أحاديث موضوعة مكذوبة عن الرسول، والتفّ حوله العديد من الموالي وأبناء الطبقات الاجتماعية الدَّنِيا في حركته قصيرة العمر.

ومع صعود الدولة العباسية بلغت الحضارة العربية الإسلامية أقصى ازدهار، خاصة في عهد هارون الذي سُميت أيامه أيام العروس لرخائها وتوفّي وفي بيت المال 900 مليون دينار ذهبي، ثم عهد المأمون من بعده، ومن بلاط بغداد الذي امتلأ بالشعراء والمطربين والملحنين، انتقل الترف إلى القصور على شواطئ دجلة والفرات، حتى أنشأ إبراهيم الموصلي مدرسة لتعليم الجواري الحسان وتدريبهم على الغناء والموسيقى، وإنشاد الشعر وأصول الحياة في القصور وآدابها؛ ليتسابق عليهن الأمراء والأثرياء في عصر أصبح اقتناء الجواري الشهيرات فيه علامة الرقي والانتماء لصفوة المجتمع.

ولكن بجوار القصور الشامخة الممتلئة ترفاً على شواطئ دجلة والفرات الممتلئة بالمراكب الصغيرة التي تصدح منها أصوات الموسيقى والغناء في نزهاتها البحرية الممتعة كان سكان الأكواخ والبيوت الطينية الصغيرة علي حالهم، وفي ظل الصراعات السياسية والمذهبية الحادة كانت الحركات الثورية وحتى الفوضوية تمثل لهم فرصاً للحصول على ما تراه أعينهم ولا تمسه أيديهم من ترف وثراء.

وكانت الملكيات الزراعية الكبيرة سمة عامة في عراق القرن الثالث الهجري، ولتكدس الأموال بأيدي كبار التجار والملاك الزراعيين بدأت حركة لإحياء الأراضي الموات المحيطة بالبصرة، والتي احتاج استصلاحها إلى أيدٍ عاملة كثيفة لكسح المخلفات وتطهير القنوات وتجفيف المستنقعات وإزالة الطبقة الملحية من التربة وإعدادها للزراعة، فتم استقدام جماعات ضخمة من العبيد من شرق إفريقيا غلب عليهم اسم الزنج للقيام بهذه المهمة تحت إمرة وكلاء السادة الإقطاعيين؛ لينشأ نظام أسوأ من نظام القنانة الأوروبي بمراحل؛ حيث كانت حشود هؤلاء العبيد تعيش في معسكرات عمل جماعية من الذكور بلا زواج ولا تكوين أسر، ولا يخرج أفرادها من تلك الأراضي التي يعملون بها ويأكلون منها ويدفنون فيها بلا أدنى أمل في تغيير أوضاعهم غير الإنسانية إلا انتهاء حياتهم البائسة التي قضوها في خدمة جشع السادة الذي لا ينتهي.

ومع بداية عصور الانحطاط في الدولة العباسية، وتراجع دور الخلفاء وانعزالهم وصعود القادة الأتراك وسيطرتهم على مقاليد الأمور كانت الفرصة لكل مدّعي طموح أن يحاول كسب سلطان وإقامة دولة مستغلاً الفراغ السياسي والفساد الإداري والاجتماعي الذي ضرب أطنابه كافة نواحي الدولة.

وفي عام 254 هـ دخل البصرة علي بن محمد، وقد كان زعم أنه أحد أحفاد الحسين، وأن جده هرب للري بعد مقتل زيد بن علي بن الحسين في عهد هشام بن عبد الملك مثل كثيرين غيره ادّعوا النسب العلوي في إطار سعيهم للسلطة، مستغلين الثقافة الإسلامية السائدة التي تجعل من النسب العلوي سنداً لشرعية الساعي إلى السلطة، وتكسبه احتراماً، في ظل ثقافة يحتل النسب الرفيع بها مكانة كبيرة وبدء دعوته في البحرين دون أن يحقق النجاح المرجو، فدخل البصرة مع بعض أتباعه من الأعراب في ظل صراع دموي بين فرق الأتراك العسكرية.

ولكنه فشل في استثمار الفوضى في القفز على السلطة وقُبض عليه وشتت أتباعه، ولكن الحظ كان حليفه فتمكن من الهرب والاختباء حتى عزل والي البصرة محمد بن رجاء، وانشغل الجنود الأتراك بالصراع الذي تجدد بينهم، فأقام بموضع على أطراف البصرة يسمى قصر القرشي وهناك وجد مبتغاه.

كانت جموع الزنج التي تعمل في الأراضي الشاسعة أمامه تمثل له الفرصة التي كان ينتظرها.

قوة بشرية هائلة بلا قيادة ولا ثقافة ولا موروث شعبي، ولا ولاءات قبلية مستعدة تماماً للانقياد وراء أي داعية لأي فكرة إن بذل الجهد القليل الكافي لجذبها بالوعود وإيقاظ آمالها المحبطة.

وهكذا فعندما قام فيهم علي بن محمد خطيباً في عيد الفطر 255 هـ معلناً أنه رجل من بيت النبوة خرج على العباسيين غضباً لله وطلباً للعدل، يريد أن يحررهم من الرق ويملكهم الدور والأموال، ويرفع عنهم ذل العبودية ويورثهم ما بأيدي السادة من متاع الدنيا الذي حرموهم منه بغياً وظلماً كانت استجابتهم السريعة أمراً متوقعاً فما الذي كان بأيديهم يخافون خسارته؟

وسرعان ما تحول العشرات الذين استمعوا لخطبة علي وانضووا تحت لوائه إلى مئات وهو يسعى يجمع العبيد الذين يعملون في الأراضي، ولما تنبه وكلاء ملاكها وحاولوا استعادتهم أمر العبيد فضربوهم ثم بدأ في مهاجمة القرى ونهب الأموال وإطعام وكساء جنده من الزنج، وبدء تسليحهم وتدريبهم على القتال، وقد أصبحوا الآلاف وانضم إليهم من الأعراب والفقراء والمغامرين الكثير طمعاً في الغنائم، وفي غضون أيام معدودة أصبح لعلي جيش مرهوب الجانب!

ثم بدأت غارات جيش علي في الاشتداد وعرض عليه ملاك الأراضي الذين لم يكونوا أدركوا حقيقة الوضع أن يرد إليهم عبيدهم ويدفعوا له فدية خمسة دنانير على الرأس، فكان رده أن استهدف البصرة ونهب دورها وأسواقها حتى خرج أهلها لمحاربته فهزمهم هزيمة ساحقة، فاستنجدوا بالخليفة الذي أرسل جيشاً لإنقاذهم، ولكن جيش علي حقق مفاجأة، وتمكن من هزيمة جيش الخليفة ثم استولى على أسطول ضخم مكون من 24 سفينة كان متوجهاً للبصرة.

وكانت بغداد منشغلة عن أمر البصرة وكل ما يحدث في الدنيا وقتها، فقد تآمر بعض القادة على الخليفة المهتدي، وأرادوا خلعه، بينما رفض قادة آخرون وهددوا بالحرب إن قتل الخليفة أو تعرض له أحد، فظلت القوى العسكرية حبيسة بغداد وما حولها مستعدة للحرب الأهلية، واضطرب الوضع وتصادم الفريقان، وقتل المئات بينهم إلى أن خرج المهتدي في الشوارع يستنجد بالعامة، فلم يجيبوه حتى قبض عليه، وقد أثخنته الجراح وسرعان ما وافته المنية بينما أخرج القادة الأتراك أحمد بن المتوكل من السجن وبايعوه بالخلافة ولُقب بالمعتمد 256 هـ.

واستغل صاحب الزنج هذه الفوضى فهاجموا ميناء الأبلة وأقاموا بها مذبحة مروعة، وأشعلوا فيها النيران فاحترقت أغلب مساكنها، ثم استسلم أهل عبادان وسلموا للزنج ما بها من سلاح وعبيد مقابل حفظ أنفسهم وأعراضهم، ثم هاجم الأهواز فدمر وأحرق وسلب ونهب، وبعد صدامات مع قوات الخليفة بدأ في التوجه للبصرة.

وفي مطلع 257 هـ بدأ صاحب الزنج في حصار البصرة وجمع الأعراب والزنج وبدأ في الضغط عليها، وفي يوم جمعة بدأ الهجوم الشامل من ثلاث جهات في وقت واحد، فأعملوا في أهلها القتل وأحرقوا المسجد الجامع، وجمع من أهلها الكثيرين فعذبوا ليدلوا على أموالها ثم قُتلوا، ويقدر المؤرخون بأن 300 ألف نفس قد أزهقت في البصرة بالسيف والحرق، ومن استطاع الاختباء من أهلها قاسى المجاعة حتى أكلوا جثث الموتى.

وأصبحت لعلي صاحب الزنج دولة ضمت أغلب سواد العراق والبصرة والبحرين والأهواز ولها سلطان مهيب أسسها على الرعب والإرهاب وسفك دماء الأبرياء، وإن كان حرر فيها الزنج من الرق ومنحهم والأعراب الأموال والمساكن فقد استرق أبناء العرب والموالي الأحرار حتى أصبحت بنات العرب يبعن بدراهم معدودة، ولكل جندي من الزنج خمس أو أكثر منهن.

وقد حاول بعض المؤرخين أن يصنفوا حركة الزنج في إطار الحركات الشيعية أو حركات الخوارج الأزارقة، محاولين تفسير القسوة والشبق إلى الدماء الذي صاحبها، ولكن الواضح أن تلك الحركة الفوضوية الدموية لم تكن ذات بُعد أيديولوجي أو غاية إصلاحية برغم ادعاء صاحب الزنج نسباً علوياً وقيامه بضرب عملة نقش عليها المهدي علي بن محمد، فسلوكه الشخصي فضلاً عن سلوك العصابات التي قادها يناقض أي انتماء أيديولوجي، فلم تكن هناك من دعوة ولا أفكار تناقش ولا جماعة رأي، ولكن فقط القتل والنهب والاغتصاب.

ولم يكن جيش علي من الزنج والأعراب بأصحاب فكر، ولكنهم لم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولم يدخل قلوبهم ولم يهتم أحد بدعوتهم وتعليمهم العقائد الدينية على أُسس سليمة أو محرفة حتى.

وكانت المأساة الإنسانية في البصرة جرس إيقاظ للنائمين في بغداد، فعهد الخليفة المعتمد لأخيه أحمد الموفق بالتصدي للزنج فدخل معهم في حرب ضروس، ورغم قوة جيشه فإن أسلوب حرب العصابات وخفة المقاتلين الذين اعتمدوا على الغارات والكمائن والقتال في الأحراش والمستنقعات التي اعتادوها أضر بجيشه، فتكبد خسائر جسيمة إلى أن انسحب 259 هـ.

وكان هناك خطر جديد يواجه الخلافة؛ حيث استطاع يعقوب بن ليث الصفار أن يستقل بفارس، فانسحبت قوات الخليفة من قتالهم لمواجهه دولته، فاستطاع الزنج إعادة الهجوم على الأهواز وارتكاب مذابح جديدة مروعة إلى أن توفي يعقوب 265 هـ وتصالح خلفه مع الخليفة.

وبينما كانت السلطة الاسمية للمعتمد كان أحمد أخوه هو صاحب السلطة الحقيقية والمسيطر على الأوضاع حتى حجر على أخيه، واستغل أحمد بن طولون الأوضاع، وأعلن استقلاله بمصر وضم معظم الشام إليها، واستغل حجر الموفق على الخليفة فجمع الفقهاء وأعلنوا خلعه من ولاية العهد، ولكن ذلك لم يفتّ في عضد الموفق، ومنع أخاه من اللجوء لابن طولون بمصر وحدد إقامته.

ولما تفرغ الموفق لحرب الزنج أخيراً كانت حربة المريرة معهم التي استمرت سنوات عاقب فيها الأعراب وشتتهم واستعاد ما سيطر عليه الزنج من المدن والأراضي، وأثخن فيهم القتل إلى أن حاصر المختارة عاصمة الزنج واقتحمها بعد معركة دموية قتل فيها من الجانبين الآلاف بينما هرب علي بن محمد تاركاً نساءه وأبناءه خلفه فعفا عنهم الموفق وأمّنهم.

واستمر الموفق في مطاردة صاحب الزنج ليلتقي معه في معركة أخيرة 270 هـ قتل بها والآلاف من أصحابة واستسلم الآلاف منهم، فأمنهم الموفق وتصيد الأعراب الآلاف من الهاربين فاسترقوهم من جديد، وقُضي على من حاول إعادة الكرة من زعمائهم سريعاً.

وهكذا انتهت تلك الثورة الدموية التي وعلى مدار 14 عاماً أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن نصف مليون إنسان، وأقامت دولة سرعان ما اختفت ولم يبقَ منها إلا قطعتان من النقد: واحدة بمتحف لندن والأخرى بباريس منقوش عليهما علي بن محمد أمير المؤمنين.

الماصدر:
- تاريخ الدولة العباسية محمد سهيل طقوش
- تاريخ العصر العباسى - امينة بيطار
- ديوان المبتدأ والخبر - ابن خلدون
-البداية والنهاية - ابن كثير



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/ahmed-fathy-soliman-/-_14662_b_18985226.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات