الاثنين، 12 فبراير 2018

محمد ولكنه أحياناً تايسون

محمد ولكنه أحياناً تايسون

مناداة الناس بأسمائهم تذيب الجليد وتختصر الكثير من المسافات، كان الفرق شاسعاً عندي منذ الصغر بين مدرس الإنكليزي مستر "ايفيل" بغلظته المعهودة والذي كان الجميع عنده أشخاصاً غير مُهمين، تعرف ذلك وتحسه وهو يناديك بغير اهتمام بـ"يا ابني"، وبين أستاذة العلوم الأقرب إلى قلوبنا جميعاً حينها، والتي كانت تعرفنا وتنادينا واحداً واحداً بالاسم الأستاذة " ليلى".

الأمثلة كثيرة وأقربها إلى ذهني الآن أحد أساتذة الجراحة بكلية الطب ونقيب الأطباء الحالي الدكتور حسين خيري، كان ولا يزال قدوة في التواضع وحسن الخلق، كان لا يفرق بين طالب أو عامل، ابن أستاذ أو ابن " عفريت"، تعملت منه دروساً عملية في التواضع ومكارم الأخلاق والالتزام قبل الطب، وأن كل شخص هو كيان مستقل ومهم له اسمه وواجب تقديره والاحتفاء به، وأن السلام هو عنوان الاحتفاء ومدخل القلب الرئيسي، فالانطباعات الأولى مهمة، وفي ثوان معدودة بعد أن تصافح أحدهم بأهلاً فقط، غير أهلاً "يا فلان" باسمه، غير أهلاً "يا فلان" بكنيته، لأن مفاتيح القلوب حسن الخلق وطيب الحديث، وأطيب الحديث أن تبدأه مع شخص بكنيته أو على الأقل اسمه.

محمد مساعد "المكوجي" تحسبه من براءة وجهه وضآلة جسده طالباً في المرحلة الإعدادية على أقصى تقدير، انطباعي الأول عنه بالسماعات التي لا تفارق أذنيه و"الآيس كاب" الذي لا يفارق رأسه حتى فى عز الصيف، إنه شاب شنكوتي من الدرجة الأولى يحاول أن "يروشن" أو على الأقل لا يظهر بصورة "الخرونج الهفأ".


أول مرة حاولت التركيز معه كانت بالصدفة عندما سمعت أحد الزبائن ثقال الدم يحاول أن يراضيه بعد أن أرهقه أو بمعنى أصح "طلع عينيه"، وقال له مبتسماً: "ما تزعلش يا تايسون"، ليرد محمد بجدية شديدة وصادمة اسمي محمد "ما اسميش تايسون، مين تايسون ده".

في الحقيقة "كبسة" مستحقة لزبون سخيف كثير الكلام، يسأل بعجرفة أسئلة مريبة عن درجة حرارة "المكواه" ويحكي قصصاً وهمية عن أهمية الجاكيت الفاخر المصنوع من جلد الكلب الاستوائي وأمعاء السلحفاة.

محاضرة سريعة، ولكنها من العيار الثقيل أعطاها محمد تايسون بشياكة وهدوء لهذا الشخص "الغلس" ثقيل الدم كثير الكلام، بصراحة أثلجت صدري، وزاد محمد في نظري جداً حينها، على الأقل تأكدت أنه "مش خرونج"، كما قد كان بدا لي.

بعدها بفترة استطلعت جمال الموسيقى التي يسمعها محمد من سعادة ونضارة في وجهه، حينها أحسست أن مزاجه رائق، وأنه آن الأوان أن أذيب الجليد، فقلت له مبتسماً: "بتسمع إيه يا تايسون؟".


فضحك وقال ل: "تايسون، انت عرفت الاسم ده منين، شوفتني على الفيس صح؟".

قلت له: "لا، فيس إيه أنا قافل الفيس من فترة"، ثم ضحكت وواصلت بسؤاله: "هو انت عندك فيس يا محمد"، قال لي: "يا عم أحمد ده العيال الخرونجات بقى عندها فيس يبقى أنا مش هيبقى عندي".

تبسمت قائلاً: "طيب، بس أنا دكتور على فكرة".

فرد علي بطريقة لا تخلو من السخرية: "طيب ألف مبروك، ما تزعلش، بهزر معاك والله يا عم أحمد وعارف إنك دكتور وأبو الدكترة كمان"، ثم استدرك مبتسماً.

عرفت عن محمد الكثير بعدها، أهمها روحه النقية وحبه للحياة، وأنه يدرس ويعمل في آن واحد، ويراعي والده المصاب بالشلل النصفي ويحرص كل جمعة على أن يصطحبه للمسجد "بالكرسي أبو عجل"، سمعته مرة يتحدث إلى والدته في الهاتف وعرفت حينها كم هو مهذب رقيق وبار بوالديه.
تعلمت الكثير من محمد، وعرفت بعد حين أن شيئاً ما يدعوني لحب الحياة، كلما رأيت وجهه البسيط المبهج وهو مقبل على الحياة بحلوها ومرها.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/ahmed-abo-zamel/story_b_19217240.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات