منذ أن أدركت الحياة والحب يشغل حيزاً مهماً من فكري ووجداني، إن لم أقل أغلبهما، بل وفكرت كثيراً في الكتابة عنه والغوص في بعض إشكالياته، لكن كلما حاولت إلا وأجده -الحب- في تفاعل عجيب يكتب عني، كأنني موضوع المقال ومحور الإشكالية، حتى يخيل لي في بعض الأحيان أني صرت عقدة، يحاول الحب نفسه فك التواءاتها والتأقلم معها.
أليس هذا حال الحب مع سائر الناس على مدى التاريخ؟ أليس كذلك، ونحن نقرأ في الكتب والقصائد، ونسمع في الخطب والمواعظ تعاريف لا متناهية للحب وماهيته.
فنظرة الفيلسوف العميقة والمتشككة له تختلف عن موضوعية المفكر، ولا أحلام ومثالية الشاعر عن العشق كطموح إنسان عادي لملجأ وجداني آمن، ولا الالتزام المؤمن بالحب كعبث الغافلين عنه.
إن البحث عن تعريف عام وشامل الحب كالبحث عن إبرة في كومة قش من الأفكار والتصورات. إن لكل شخص تعريفه الخاص للحب، كل حسب تجربته الفريدة، ومشاعره الوجدانية، وتركيبته الإنسانية، ومصادره المعرفية، فقد كان ولا زال الحب أسير تفردنا وأفكارنا وأحاسيسنا، وحتى يتكيف مع عوالمنا المركبة والمعقدة كان لزاماً عليه أن يصير كائناً وليس فقط عاطفة، بل كائناً هلامياً يتخذ شكل الإناء الوجداني والفكري لكل إنسان، مما أكسبه معاني سامقة بوأته عرش المشاعر الإنسانية، وأضحى بذلك متفرداً بينها كتفرد ابني آدم بين سائر المخلوقات، ومقدساً شيدت له المعابد، وغاية مجدتها القصائد.
ومن أجمل الأبيات الشعرية التي تلامس طبيعة الحب، ما نظمه الشاعر المبدع تميم البرغوثي في وصفه لضبابية الهوى:
يكثر قول الشعر في الحرب لا الهوى *** لأن الهوى لو قيس بالحرب جارح
وفي كل حرب ثم حق وباطل *** وفي الحب لا هذا ولا ذاك واضح
وقد أجاد وأفاد أمير الشعراء المتنبي، في وصفه لسلطان الحب وتفرده في أحكامه:
فديناك أهدى الناس سهماً إلى قلبي *** وأقتلهم للدارعين بلا حرب
تفرد في الأحكام في أهله الهوى *** فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب
وإني لممنوع المقاتل في الوغى *** وإن كنت مبذول المقاتل في الحب
لقد احتل الحب مكانة عظيمة حتى سمحت له بأن يكون ميزاناً للإيمان، بل ولا يقبل إيمان الإنسان بدونه، كما حدثنا بذلك خير البرية سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال:
"والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا".
فقد أمر الله عز وجل بالحب، وجعل منه جوهر رسالته للناس، وأوصت به الرسل، وأشار إليه العظماء، ومجده الشعراء، وسطر الشجعان ملاحم إنسانية حوله، ألفت الشعوب عنها قصصاً وأساطير خالدة (قيس وليلى، جميل وبثينة، عنتر وعبلة، روميو وجولييت، برجاو ومستاني...)، ألهمت الناس لآلاف السنين.
إذن أما زلتم تشكون أن الحب أو الهوى أو العشق أو الجنون سموه ما شئتم هو جوهر الحياة وسر الوجود الإنساني؟ أليس غاية الغايات؟ بلى فلا يعرف المرء إنسانيته إلا بالحب.
لكن وللأسف في عصرنا الحالي، عصر الحداثة وما بعدها، زمن التكنولوجيا المتطورة والعولمة، في عالم اختار قادته الاستهلاك ديناً جديداً، يدخل فيه الناس قسراً لا طواعية، أصبحت معاني الحب الخالدة في مهب الرياح العاتية والعواصف الساحقة، اليوم يتعرض الحب كأنبل المشاعر الوجدانية لهجمة شرسة تروم تسطيحه وتعميمه قصد تسليعه في النهاية.
هي إذن رؤية كونية مادية تسعى لانتزاع كينونة الإنسان وتفرده، حتى يسهل التحكم فيه، وبالتالي استعباده، ولم تجد وسيلة أكثر نجاعة من تسطيح أهم ما يشكل كينونته وجوهره، أي الحب، فهو الوحيد الذي يستطيع النفاذ لأعماقنا وإعادة تشكيلنا. ويوم تنزع حرارة الحب فينا ستتمكن منا آنذاك برودة المادة ونصير مثلها لا غاية لنا.
ومن مظاهر هذا التسطيح أن يقتصر فهم الحب على المظاهر لا العمق، وانتشار قيم وتصورات مادية عنه. فالعاشق الذي يدعو محبوبته لأشهر المقاهي والمطاعم، ويشتري لها أغلى الحلي والملابس، ويضمن لها إقامة دائمة في القصو، ويمجد ثنايا جسد محبوبته الممشوق، هو العاشق المثالي الذي يستحق أن يحب، وفي المقابل، على المحبوبة التي رزقت حبه عفواً، بل رزقت حب محفظة نقوده، رد الجميل بإظهار وإعلان كل ما يميز سطحيتها من مفاتن وجمال إن رزقت إياه، أما وإن كانت الحال غير ذلك، فالعالم الجديد إلى جانبها، مئات الماركات العالمية لمستحضرات التجميل وآخر صيحات الموضة في خدمتها، تسرق أموال العاشقين!
وكما لكل دين رسول يدعو الناس إليه، وجد آلهة العصر الجديد ضالتهم في السينما، فلم يهنأ حتى حولوا هذا الفن عن رسالته الحقيقية في نشر القيم النبيلة، إلى سلعة تجارية وآلة جهنمية، تسعى لتعميم نموذج واحد للحب، وبذلك تجرده من أبرز وأهم خصائصه -التفرد- وتنزع سلطانه على القلوب.
هو نموذج أبطاله حبيبان مثاليتن، في غاية الجمال الشكلي والجسدي، حياتهما كلها غناء ورقص، كل يسعى تجاه معشوقه، في قالب درامي من الكفاح! والصراع ضد الكل، ضد الأعراف والتقاليد والثقافة والدين والمجتمع، غايتهما اجتماع تحت ظل قبلة ساخنة، وبين ثنايا ليلة زاهية، ونشوة علاقة جنس عابرة.
وكما للأديان أيام فارقة وأعياد مقدسة، يحتفل فيها الناس ويتبادلون التهاني والتبريكات، صار للحب يوم يحتفل به كل سنة! صار له لون ورموز، وطقوس خاصة به، أولها الاحتفاء باللون الأحمر! فلا يسمح للعشاق أن يرتدوا غير الملابس الحمراء، ثانيها اقتناء هدايا ذات مواصفات معينة مثل قلوب حمراء أو وردة حمراء بالإضافة لهدية ثمينة، فقد صار للحب ثمن، وإياك والخروج عن هذه المعايير فالشركات التجارية لا تتوقع إبداعك ولا تفضله، التزم باللائحة والسلع المعروضة على واجهات المحلات التجارية، وإلا لن يقبل منك احتفال ولن تعتبر آنذاك من العشاق.
لهذا يا سادة اخترت أن أصرخ وأن أحتج، أن أعلن تفردي وكينونتي كإنسان حر، لا يقبل هذا الدين الجديد، ولا يسمح للعولمة والموضة بتشويه مفهوم الحب، لن أسمح بتسطيح وعيي وجعلي عبداً لآلهة العصر الجديد، أنا من يقرر متى سأحتفل بالحب وكيف.
لهذا فلون الحب أبيض يا سادة، لون الصفاء والنقاء، الصدق والوفاء، السكينة والهناء، هو شعار سلام لا صراع، وقرار استسلام المحبوب لحبيبه بكل حرية، عكس اللون الأحمر وما يذكرنا به من دماء ما يؤثر على الأعصاب ويثير الشهوات.
أليس هذا حال الحب مع سائر الناس على مدى التاريخ؟ أليس كذلك، ونحن نقرأ في الكتب والقصائد، ونسمع في الخطب والمواعظ تعاريف لا متناهية للحب وماهيته.
فنظرة الفيلسوف العميقة والمتشككة له تختلف عن موضوعية المفكر، ولا أحلام ومثالية الشاعر عن العشق كطموح إنسان عادي لملجأ وجداني آمن، ولا الالتزام المؤمن بالحب كعبث الغافلين عنه.
إن البحث عن تعريف عام وشامل الحب كالبحث عن إبرة في كومة قش من الأفكار والتصورات. إن لكل شخص تعريفه الخاص للحب، كل حسب تجربته الفريدة، ومشاعره الوجدانية، وتركيبته الإنسانية، ومصادره المعرفية، فقد كان ولا زال الحب أسير تفردنا وأفكارنا وأحاسيسنا، وحتى يتكيف مع عوالمنا المركبة والمعقدة كان لزاماً عليه أن يصير كائناً وليس فقط عاطفة، بل كائناً هلامياً يتخذ شكل الإناء الوجداني والفكري لكل إنسان، مما أكسبه معاني سامقة بوأته عرش المشاعر الإنسانية، وأضحى بذلك متفرداً بينها كتفرد ابني آدم بين سائر المخلوقات، ومقدساً شيدت له المعابد، وغاية مجدتها القصائد.
ومن أجمل الأبيات الشعرية التي تلامس طبيعة الحب، ما نظمه الشاعر المبدع تميم البرغوثي في وصفه لضبابية الهوى:
يكثر قول الشعر في الحرب لا الهوى *** لأن الهوى لو قيس بالحرب جارح
وفي كل حرب ثم حق وباطل *** وفي الحب لا هذا ولا ذاك واضح
وقد أجاد وأفاد أمير الشعراء المتنبي، في وصفه لسلطان الحب وتفرده في أحكامه:
فديناك أهدى الناس سهماً إلى قلبي *** وأقتلهم للدارعين بلا حرب
تفرد في الأحكام في أهله الهوى *** فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب
وإني لممنوع المقاتل في الوغى *** وإن كنت مبذول المقاتل في الحب
لقد احتل الحب مكانة عظيمة حتى سمحت له بأن يكون ميزاناً للإيمان، بل ولا يقبل إيمان الإنسان بدونه، كما حدثنا بذلك خير البرية سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال:
"والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا".
فقد أمر الله عز وجل بالحب، وجعل منه جوهر رسالته للناس، وأوصت به الرسل، وأشار إليه العظماء، ومجده الشعراء، وسطر الشجعان ملاحم إنسانية حوله، ألفت الشعوب عنها قصصاً وأساطير خالدة (قيس وليلى، جميل وبثينة، عنتر وعبلة، روميو وجولييت، برجاو ومستاني...)، ألهمت الناس لآلاف السنين.
إذن أما زلتم تشكون أن الحب أو الهوى أو العشق أو الجنون سموه ما شئتم هو جوهر الحياة وسر الوجود الإنساني؟ أليس غاية الغايات؟ بلى فلا يعرف المرء إنسانيته إلا بالحب.
لكن وللأسف في عصرنا الحالي، عصر الحداثة وما بعدها، زمن التكنولوجيا المتطورة والعولمة، في عالم اختار قادته الاستهلاك ديناً جديداً، يدخل فيه الناس قسراً لا طواعية، أصبحت معاني الحب الخالدة في مهب الرياح العاتية والعواصف الساحقة، اليوم يتعرض الحب كأنبل المشاعر الوجدانية لهجمة شرسة تروم تسطيحه وتعميمه قصد تسليعه في النهاية.
هي إذن رؤية كونية مادية تسعى لانتزاع كينونة الإنسان وتفرده، حتى يسهل التحكم فيه، وبالتالي استعباده، ولم تجد وسيلة أكثر نجاعة من تسطيح أهم ما يشكل كينونته وجوهره، أي الحب، فهو الوحيد الذي يستطيع النفاذ لأعماقنا وإعادة تشكيلنا. ويوم تنزع حرارة الحب فينا ستتمكن منا آنذاك برودة المادة ونصير مثلها لا غاية لنا.
ومن مظاهر هذا التسطيح أن يقتصر فهم الحب على المظاهر لا العمق، وانتشار قيم وتصورات مادية عنه. فالعاشق الذي يدعو محبوبته لأشهر المقاهي والمطاعم، ويشتري لها أغلى الحلي والملابس، ويضمن لها إقامة دائمة في القصو، ويمجد ثنايا جسد محبوبته الممشوق، هو العاشق المثالي الذي يستحق أن يحب، وفي المقابل، على المحبوبة التي رزقت حبه عفواً، بل رزقت حب محفظة نقوده، رد الجميل بإظهار وإعلان كل ما يميز سطحيتها من مفاتن وجمال إن رزقت إياه، أما وإن كانت الحال غير ذلك، فالعالم الجديد إلى جانبها، مئات الماركات العالمية لمستحضرات التجميل وآخر صيحات الموضة في خدمتها، تسرق أموال العاشقين!
وكما لكل دين رسول يدعو الناس إليه، وجد آلهة العصر الجديد ضالتهم في السينما، فلم يهنأ حتى حولوا هذا الفن عن رسالته الحقيقية في نشر القيم النبيلة، إلى سلعة تجارية وآلة جهنمية، تسعى لتعميم نموذج واحد للحب، وبذلك تجرده من أبرز وأهم خصائصه -التفرد- وتنزع سلطانه على القلوب.
هو نموذج أبطاله حبيبان مثاليتن، في غاية الجمال الشكلي والجسدي، حياتهما كلها غناء ورقص، كل يسعى تجاه معشوقه، في قالب درامي من الكفاح! والصراع ضد الكل، ضد الأعراف والتقاليد والثقافة والدين والمجتمع، غايتهما اجتماع تحت ظل قبلة ساخنة، وبين ثنايا ليلة زاهية، ونشوة علاقة جنس عابرة.
وكما للأديان أيام فارقة وأعياد مقدسة، يحتفل فيها الناس ويتبادلون التهاني والتبريكات، صار للحب يوم يحتفل به كل سنة! صار له لون ورموز، وطقوس خاصة به، أولها الاحتفاء باللون الأحمر! فلا يسمح للعشاق أن يرتدوا غير الملابس الحمراء، ثانيها اقتناء هدايا ذات مواصفات معينة مثل قلوب حمراء أو وردة حمراء بالإضافة لهدية ثمينة، فقد صار للحب ثمن، وإياك والخروج عن هذه المعايير فالشركات التجارية لا تتوقع إبداعك ولا تفضله، التزم باللائحة والسلع المعروضة على واجهات المحلات التجارية، وإلا لن يقبل منك احتفال ولن تعتبر آنذاك من العشاق.
لهذا يا سادة اخترت أن أصرخ وأن أحتج، أن أعلن تفردي وكينونتي كإنسان حر، لا يقبل هذا الدين الجديد، ولا يسمح للعولمة والموضة بتشويه مفهوم الحب، لن أسمح بتسطيح وعيي وجعلي عبداً لآلهة العصر الجديد، أنا من يقرر متى سأحتفل بالحب وكيف.
لهذا فلون الحب أبيض يا سادة، لون الصفاء والنقاء، الصدق والوفاء، السكينة والهناء، هو شعار سلام لا صراع، وقرار استسلام المحبوب لحبيبه بكل حرية، عكس اللون الأحمر وما يذكرنا به من دماء ما يؤثر على الأعصاب ويثير الشهوات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mouad-farih/post_16958_b_19277256.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات