"ليت الناس يبذلون مزيدا من الجهد في التفكير، لأدركوا أن الحياة لا تستحق أن نُعنى بها كل هذه العناية..."
كنت قد حدثتكم في تدوينة الأسبوع الماضي عن ألكسندر بوشكين، شاعر روسيا المبدع الذي قادته امرأة إلى حتفه، عندما قتل في مبارزة مع عشيق مفترض لناتاليا زوجة ألكسندر. لن نغادر روسيا القيصرية في هذه التدوينة أيضا، لنتعرف سوية على من تسلم المشعل من سلفه بوشكين، كشاعر وكاتب يحمل هموم جيله، قبل أن يموت في عز شبابه، وبنفس الطريقة التي قتل بها ألكسندر! إنه ميخائيل، ميخائيل ليرمنتوف..
يمكن القول إن طفولة ونشأة ميخائيل لا تختلف بشكل عام عن نشأة سلفه ألكسندر بوشكين، فقد ولد في موسكو سنة 1814 لعائلة من طبقة النبلاء، وتوفيت والدته عام 1817 وميخائيل لم يكمل بعد الثالثة من عمره، فتكفلت به جدته، وكان محظوظا هو الآخر بنيله دراسة راقية في مدرسة داخلية للنبلاء تابعة لجامعة موسكو، ساهمت في ولادة ونمو موهبته الشعرية، قبل أن يلتحق بالمدرسة العسكرية في سان بطرسبرغ ويتخرج منها سنة 1834 ضابطا في الحرس الإمبراطوري، دون أن يشغله ذلك عن القراءة ونظم الشعر.
كتب ليرمنتوف الكثير من القصائد كـ"أسير القوقاز"، "الشركسي"، "الشيطان" وغيرها، وألف أيضا مسرحيتي "حفلة تنكرية" و"الشقيقان". لكنه اشتهر على الصعيد العالمي بروايته "بطل من هذا الزمان"
تأثر ميخائيل ليرمنتوف كثيرا بالوفاة الدرامية لألكسندر بوشكين، فكتب قصيدة "موت شاعر" التي يرددها المعاصرون إلى يومنا هذا، وساهم احتجاجه الصريح على مقتل ألكسندر (واعتباره أن المبارزة كانت فخا نصب لبوشكين للتخلص منه) في إثارة غضب السلطات القيصرية التي قررت نفيه إلى القوقاز (مثل سلفه بوشكين أيضا)، فكانت تلك فرصة له هو الآخر ليصقل موهبته الشعرية ويتجه أيضا إلى الرسم بالألوان المائية والزيتية.
تدخلت جدة ميخائيل بعلاقاتها، فتمت إعادته إلى سان بطرسبرغ، لكنه شارك في مبارزة مع ابن السفير الفرنسي بارانت، ليتقرر إعادته إلى القوقاز مرة أخرى ورفض تكريمه من قبل القيصر نيقولاي الأول رغم الشجاعة الكبيرة التي أبداها في ميادين القتال.
كتب ليرمنتوف الكثير من القصائد كـ"أسير القوقاز"، "الشركسي"، "الشيطان" وغيرها، وألف أيضا مسرحيتي "حفلة تنكرية" و"الشقيقان". لكنه اشتهر على الصعيد العالمي بروايته "بطل من هذا الزمان" التي قدمته أيضا كروائي متمكن إلى جانب موهبته الشعرية. ولهذه الرواية "حكاية" أيضا.. فقد نشرت ثلاث قصص في المجلة التقدمية "أوتيتشستفينيه زابيسكي"، طالعها الجمهور، لكن أحدا لم يخمن أنها إذا أخذت معا فإنها تشكل وحدة متكاملة، لأن البطل الرئيسي في هذه القصص هو شخصية واحدة: الضابط جريجوري بيتشورين !
صدرت لأول مرة عام 1840، عاما واحدا قبل وفاة صاحبها الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره! (السن اللعنة حسب بعض المعتقدات الرائجة حاليا)، أما الترجمة العربية فقد تولى أمرها راهب الأدب الروسي الراحل سامي الدروبي، وصدرت طبعتها الجديدة عن المركز الثقافي العربي.
تدور أحداث الرواية بين عامي 1827 و1833، على ضفاف البحر الأسود ومنطقة القوقاز، عبر سلسلة فصول تتناول السيرة المضطربة لضابط روسي شاب يدعى جريجوري بيتشورين، وذلك بتناوب بين الراوي العليم، وسرد بضمير المتكلم.
تم توزيع فصول الرواية على الشكل التالي: "بيلا"، "مكسيم مكسيمتش"، "تامان"، "الأميرة ماري" و"الجبري"، لكن هذا التقسيم لا يخضع للتسلسل الزمني، بل لرغبة الكاتب في التمهيد لتقديم شخصية بيتشورين الفريدة من نوعها، فنراه في البداية من منظور الضابط العجوز مكسيم مكسيمتش، ثم يراقب الراوي سلوك بيتشورين، قبل أن نعلم بوفاة بيتشورين ونطالع مذكراته.
تصور هذه الرواية واقع روسيا القيصرية في إمبراطورية نيقولاي الأول، عندما فقد الشباب كل أمل لهم في التغيير، وذابوا في مجتمع متهاون وخال من الاهتمام والرغبة الحقيقية في النهوض بالبلاد. كل هذا يتجسد من خلال شخصية بيتشورين الذكي والمثقف، والوحيد التعس في نفس الوقت بعدما فقد كل أمل في تحقيق أحلامه، وعجزه عن تذوق طعم السعادة، لا في الحب ولا في الصداقة.
وقد قال ليرمنتوف عن روايته هذه:
"إن "بطل من هذا الزمان" لهو صورة حقا، ولكنه ليس صورة رجل واحد. إنه صورة تضم رذائل جيلنا كله..."
كان من الطبيعي أن تجر آراء ليرمنتوف المنتقدة لوضعية الشباب الروسي نقمة السلطة الحاكمة، بالإضافة طبعا لاحتجاجه على مقتل بوشكين، خاصة بعدما عرى بروايته واقع روسيا المهلهلة، فتم نفيه مرتين
يتفق عدد كبير من النقاد الروس والعالميين على أن "بطل من هذا الزمان" رواية فارقة في تاريخ الأدب العالمي، سواء للطريقة التي كتبت بها، أو تصنيفها الاجتماعي السيكولوجي، أو حتى التقنيات الروائية المستخدمة والتي لم تكن مألوفة في تلك الفترة، وهناك من يذهب أبعد من ذلك ويقول بأن ليرمنتوف الشاعر المرهف والروائي المتمكن الذي كتب رواية واحدة فقط أوصلته إلى الخلود الأدبي، لو عاش أكثر من ذلك لربما تفوق على تولستوي ودوستويفسكي (أعلم أن السياق مختلف، لكن هذه الجزئية تذكرني كثيرا بأسمهان وحديث البعض عن أن وفاتها المبكرة حالت دون تربعها على عرش الطرب العربي مكان أم كلثوم!).
وكان من الطبيعي أن تجر آراء ليرمنتوف المنتقدة لوضعية الشباب الروسي نقمة السلطة الحاكمة، بالإضافة طبعا إلى ما ذكرناه عن احتجاجه على مقتل بوشكين، خاصة بعدما عرى بروايته واقع روسيا المهلهلة، فتم نفيه مرتين كما قلنا، قبل أن تدبر له مبارزة في ظروف غامضة بعد عودته الثانية، هذه المرة أمام زميل دراسة سابق يدعى نيكولاي مارتينوف، في حيثيات مطابقة تماما لمبارزة جريجوري بيتشورين وجروشنيتسكي في رواية بطل من هذا الزمان وما حدث لألكسندر بوشكين ملهم ميخائيل ليرمنتوف، الفرق هنا أن بيتشورين انتصر، فيما كلفت الهزيمة ليرمنتوف حياته!
هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
كنت قد حدثتكم في تدوينة الأسبوع الماضي عن ألكسندر بوشكين، شاعر روسيا المبدع الذي قادته امرأة إلى حتفه، عندما قتل في مبارزة مع عشيق مفترض لناتاليا زوجة ألكسندر. لن نغادر روسيا القيصرية في هذه التدوينة أيضا، لنتعرف سوية على من تسلم المشعل من سلفه بوشكين، كشاعر وكاتب يحمل هموم جيله، قبل أن يموت في عز شبابه، وبنفس الطريقة التي قتل بها ألكسندر! إنه ميخائيل، ميخائيل ليرمنتوف..
يمكن القول إن طفولة ونشأة ميخائيل لا تختلف بشكل عام عن نشأة سلفه ألكسندر بوشكين، فقد ولد في موسكو سنة 1814 لعائلة من طبقة النبلاء، وتوفيت والدته عام 1817 وميخائيل لم يكمل بعد الثالثة من عمره، فتكفلت به جدته، وكان محظوظا هو الآخر بنيله دراسة راقية في مدرسة داخلية للنبلاء تابعة لجامعة موسكو، ساهمت في ولادة ونمو موهبته الشعرية، قبل أن يلتحق بالمدرسة العسكرية في سان بطرسبرغ ويتخرج منها سنة 1834 ضابطا في الحرس الإمبراطوري، دون أن يشغله ذلك عن القراءة ونظم الشعر.
كتب ليرمنتوف الكثير من القصائد كـ"أسير القوقاز"، "الشركسي"، "الشيطان" وغيرها، وألف أيضا مسرحيتي "حفلة تنكرية" و"الشقيقان". لكنه اشتهر على الصعيد العالمي بروايته "بطل من هذا الزمان"
تأثر ميخائيل ليرمنتوف كثيرا بالوفاة الدرامية لألكسندر بوشكين، فكتب قصيدة "موت شاعر" التي يرددها المعاصرون إلى يومنا هذا، وساهم احتجاجه الصريح على مقتل ألكسندر (واعتباره أن المبارزة كانت فخا نصب لبوشكين للتخلص منه) في إثارة غضب السلطات القيصرية التي قررت نفيه إلى القوقاز (مثل سلفه بوشكين أيضا)، فكانت تلك فرصة له هو الآخر ليصقل موهبته الشعرية ويتجه أيضا إلى الرسم بالألوان المائية والزيتية.
تدخلت جدة ميخائيل بعلاقاتها، فتمت إعادته إلى سان بطرسبرغ، لكنه شارك في مبارزة مع ابن السفير الفرنسي بارانت، ليتقرر إعادته إلى القوقاز مرة أخرى ورفض تكريمه من قبل القيصر نيقولاي الأول رغم الشجاعة الكبيرة التي أبداها في ميادين القتال.
كتب ليرمنتوف الكثير من القصائد كـ"أسير القوقاز"، "الشركسي"، "الشيطان" وغيرها، وألف أيضا مسرحيتي "حفلة تنكرية" و"الشقيقان". لكنه اشتهر على الصعيد العالمي بروايته "بطل من هذا الزمان" التي قدمته أيضا كروائي متمكن إلى جانب موهبته الشعرية. ولهذه الرواية "حكاية" أيضا.. فقد نشرت ثلاث قصص في المجلة التقدمية "أوتيتشستفينيه زابيسكي"، طالعها الجمهور، لكن أحدا لم يخمن أنها إذا أخذت معا فإنها تشكل وحدة متكاملة، لأن البطل الرئيسي في هذه القصص هو شخصية واحدة: الضابط جريجوري بيتشورين !
صدرت لأول مرة عام 1840، عاما واحدا قبل وفاة صاحبها الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره! (السن اللعنة حسب بعض المعتقدات الرائجة حاليا)، أما الترجمة العربية فقد تولى أمرها راهب الأدب الروسي الراحل سامي الدروبي، وصدرت طبعتها الجديدة عن المركز الثقافي العربي.
تدور أحداث الرواية بين عامي 1827 و1833، على ضفاف البحر الأسود ومنطقة القوقاز، عبر سلسلة فصول تتناول السيرة المضطربة لضابط روسي شاب يدعى جريجوري بيتشورين، وذلك بتناوب بين الراوي العليم، وسرد بضمير المتكلم.
تم توزيع فصول الرواية على الشكل التالي: "بيلا"، "مكسيم مكسيمتش"، "تامان"، "الأميرة ماري" و"الجبري"، لكن هذا التقسيم لا يخضع للتسلسل الزمني، بل لرغبة الكاتب في التمهيد لتقديم شخصية بيتشورين الفريدة من نوعها، فنراه في البداية من منظور الضابط العجوز مكسيم مكسيمتش، ثم يراقب الراوي سلوك بيتشورين، قبل أن نعلم بوفاة بيتشورين ونطالع مذكراته.
تصور هذه الرواية واقع روسيا القيصرية في إمبراطورية نيقولاي الأول، عندما فقد الشباب كل أمل لهم في التغيير، وذابوا في مجتمع متهاون وخال من الاهتمام والرغبة الحقيقية في النهوض بالبلاد. كل هذا يتجسد من خلال شخصية بيتشورين الذكي والمثقف، والوحيد التعس في نفس الوقت بعدما فقد كل أمل في تحقيق أحلامه، وعجزه عن تذوق طعم السعادة، لا في الحب ولا في الصداقة.
وقد قال ليرمنتوف عن روايته هذه:
"إن "بطل من هذا الزمان" لهو صورة حقا، ولكنه ليس صورة رجل واحد. إنه صورة تضم رذائل جيلنا كله..."
كان من الطبيعي أن تجر آراء ليرمنتوف المنتقدة لوضعية الشباب الروسي نقمة السلطة الحاكمة، بالإضافة طبعا لاحتجاجه على مقتل بوشكين، خاصة بعدما عرى بروايته واقع روسيا المهلهلة، فتم نفيه مرتين
يتفق عدد كبير من النقاد الروس والعالميين على أن "بطل من هذا الزمان" رواية فارقة في تاريخ الأدب العالمي، سواء للطريقة التي كتبت بها، أو تصنيفها الاجتماعي السيكولوجي، أو حتى التقنيات الروائية المستخدمة والتي لم تكن مألوفة في تلك الفترة، وهناك من يذهب أبعد من ذلك ويقول بأن ليرمنتوف الشاعر المرهف والروائي المتمكن الذي كتب رواية واحدة فقط أوصلته إلى الخلود الأدبي، لو عاش أكثر من ذلك لربما تفوق على تولستوي ودوستويفسكي (أعلم أن السياق مختلف، لكن هذه الجزئية تذكرني كثيرا بأسمهان وحديث البعض عن أن وفاتها المبكرة حالت دون تربعها على عرش الطرب العربي مكان أم كلثوم!).
وكان من الطبيعي أن تجر آراء ليرمنتوف المنتقدة لوضعية الشباب الروسي نقمة السلطة الحاكمة، بالإضافة طبعا إلى ما ذكرناه عن احتجاجه على مقتل بوشكين، خاصة بعدما عرى بروايته واقع روسيا المهلهلة، فتم نفيه مرتين كما قلنا، قبل أن تدبر له مبارزة في ظروف غامضة بعد عودته الثانية، هذه المرة أمام زميل دراسة سابق يدعى نيكولاي مارتينوف، في حيثيات مطابقة تماما لمبارزة جريجوري بيتشورين وجروشنيتسكي في رواية بطل من هذا الزمان وما حدث لألكسندر بوشكين ملهم ميخائيل ليرمنتوف، الفرق هنا أن بيتشورين انتصر، فيما كلفت الهزيمة ليرمنتوف حياته!
هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست عربي لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/abdelmajid-sebbata/post_16964_b_19278060.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات