الثلاثاء، 20 فبراير 2018

"رأيت رام الله".. حين تصبح الحكايات هوية

"رأيت رام الله".. حين تصبح الحكايات هوية

"ارفعوا أقلامكم عنها قليلاً
واملأوا أفواهكم صمتاً جميلاً
لا تجيبوا دعوة القدس
ولو بالهمس
كي لا تسلبوا أطفالها الموت النبيلا"

لعدة أيام بعد إعلان القدس عاصمةً لإسرائيل بقيت هذه الكلمات تلاحقني، تقيّد أفكاري وتلجم شفتي، وتقنعني أن الصمت هو أنبل ما يمكن أن أقدمه، ومهما حاولت أن أتجاوزه بقيت حروفي في نظري تافهة بلا جدوى.

فمن أكون وما عساي أقول؟! ولا الفقد فقدي، ولا القيد قيدي، وليس للقدس إلا أهلها. هكذا أقنعت نفسي وصمت، ورميت نفسي في دوامة الحياة حتى وقع بين يدي كتاب مريد البرغوثي "رأيت رام الله".

يبدأ البرغوثي قصته من الجسر الخشبي، هذا الجسر الذي يربط الغربة بالعودة، العالم الآخر بعالمه، بأمسه بالحنين، بالوطن الذي اقتلع منه وصار صعباً أن يعرش في أي مكان، كأن اقتلاعه وحرمانه من العودة لثلاثين عاماً كان اللعنة التي أبقته في الشتات يتنقل بين مدن الكون بلا استقرار.

يتنقل البرغوثي بين الأحداث والأزمان بسلاسة موجعة تحز قلبك كنصل سكين حاد، يأخذك في رحلته للبحث عن عودته وعن رام الله ودير غسانة التي يعرف، عن الأحلام الضبابية المسلوبة، عن حكايات عمره التي مرّت وهو على هامشه.

رأيت في قصته قصتي، وصوراً من ذكريات الطفولة، رأيت بيت جدي وشجر التين، والطابون، ولهونا فوق أسطح البيوت، ومعصرة الزيتون، رأيت جدتي في ثوبها الفلاحي، وزنارها الذي كانت تخبئ فيه الحلوى.

وبكيت، بكيت مرات كثيرة، وكأن حكايته دعوة للحنين، بكيت الناس، والأماكن والذكريات، بكيت لأن الاحتلال كما قال "خلق أجيالاً عليه أن تحب حبيباً مجهولاً نائياً عسيراً محاطاً بالحراس والأسوار وبالرؤوس النووية وبالرعب الأملس".

بكيت لأن السياسة ووسائل الإعلام نجحت في تحويل هذا الوطن إلى قضية، واتفاقيات، وأرقام وإجراءات ومفاوضات، وغاب الإنسان، غابت الإنسانية، غابت الأم التي ما عادت تدري لأي أرض تيمم قلبها، وأبناؤها هناك موزعون في الشتات. غابت مشاهد كثيرة، غابت الأماكن والشخوص، وصارت الذكريات صوراً ضبابية نخاف أن نقترب منها كثيراً فنشقى ونخاف أن نبتعد فننسى.

حكاية مريد البرغوثي عن غربته المطلقة، التي لا يثبت لها مكان أو زمان ومحاولاته لاسترجاع المدن والأشخاص بعد عودته، واسترجاع نفسه فيها، تمسنا جميعاً، تدق أجراس القلب، تشرع الروح لعصف الحكايات، تلك الحكايات التي لا ينبغي أن تموت؛ لأنها حدود بقائنا على قيد الوطن وتذاكر عودتنا إليه.

ولعل إبراهيم نصر الله أدرك قوة الحكاية مبكراً جداً، فكانت رواياته ضمن مجموعة الملهاة الفلسطينية حكايات تمزج التاريخ بالإنسانية وتعيد تسجيل الأحداث وصياغة الأمس، "وتقدم تأملاً في حياة البشر وهم يعيشون، وهم يصرون على أن يواصلوا الحياة بعيداً عن الأقنعة الأسمنتية الضاحكة التي صُبَّت فوق ملاحهم رغماً عنهم. إنهم يبكون ويضحكون ويتذكرون الشهداء وينسونهم أيضا ويحبون ويبغضون".

وأشار نصر الله في لقاء صحفي إلى "أن كل ما يكتبه هو مقاومة لفكرة تسعى إلى تنميط الفلسطينين وتحويلهم إلى تماثيل تمتشق السيوف أو الحجارة في أيديها الملوحة، وإذا كان من مهمة للأدب الفلسطيني فهي أن يقول: إن الفلسطيني كائن بشري له قلبه وأحلامه الصغيرة وله أفراحه وأحزانه، أن يقول: إن الأم التي تزغرد في جنازة ابنها الشهيد هي الأم التي تبكيه بكاء لا يتصوره العقل حين يغادر الناس".

وهكذا يرى نصر الله أن "الشعب الفلسطيني ما كان ليقاتل أعداءه، أو أولئك الذين يتناسلون من رحم أعدائه، لو لم يكن يحب الحياة فعلاً، وإلا عن أي شيء يدافع هذا الشعب، منذ أكثر من مائة عام، إن لم يكن يدافع عن جمال هذه الأشياء. وهل هناك سبب مقنع لهذا التعلُّق بالحياة أكثر من إدراكه العميق لكل ما هو إنساني ورقيق وجميل وحر فيها. ما هو الشيء الذي يجبره أن يدفع هذا الثمن الباهظ سوى أنه يحب أشجاره وحديقته وغناء الطير في الصباح على حافة نافذته ويحب أطفاله ومستعد؛ لأن يفعل المستحيل كي تكون طريقهم للنشيد المدرسي محفوفة بالأزهار لا بفوهات بنادق الجنود".

الحكايات والقصائد هي الوجه الحقيقي للشعوب والأوطان، هي أحلامهم، مخاوفهم، يومياتهم، أوجاعهم، هي صوتهم وغناؤهم والذكريات وهي أيضاً ذلك الحب الفاضح أحياناً والمسكوت عنه، أو منه أحياناً أخرى.

الحكايات قوة، قد لا تدفع بها اعتداء المحتل، قد لا تحرر شبراً، قد لا تكسر قيد مسجون، لكنها وقود الروح، نورها، أجنحتها، وثْبَتها في الحياة، والحبل السري الذي يربطها بكينونتها.

الحكايات هوية "وتلك الحكايات التي لا نكتبها تصبح مِلكاً لأعدائنا".



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/-dannah-abu/-_15029_b_19264230.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات