الثلاثاء، 20 فبراير 2018

حوار مع صديقي المُغترِب

حوار مع صديقي المُغترِب

* قررت أن أعود.
- أستحلفك بالله.. لا ليس الآن.

* ولكني مُتعب للغاية.

- ولكنك لا تعلم يا صديقي.. فالمادة الخام للتعب والشقاء تنتظرك حينما تعود.

* فأنت لا تعلم أيضاً فقد ضاقت بي السُّبل هنا، أشعر بأنني كشمعة تحترق في وضح النهار، احتراقاً بلا جدوى.

- هنا أيضاً يا عزيزي نحترق جميعاً يومياً بلا جدوى، هنا أيضاً ننصهر سوياً في عربات المترو، هنا أيضاً نضيع نصف أعمارنا تقريباً في طريقنا من وإلى العمل، هنا أيضاً نعلم أن المحصله النهائية لليوم هي صفر، على الأقل تستطيع أن تصل لعملك بعد دقائق معدودة، أما هنا فعليك أن تُضيع من حصيلة يومك ثلاث لأربع ساعات يومياً قيادة في شوارع قاهرة المعز، صدق مَن أطلق عليها اسم "القاهرة"، فهي في الماضي كانت "قاهرة" لغزاتها واليوم فهي "قاهرة" لقاطنيها ومن يدور في فلكها، فقد صدق عمنا سيد حجاب حينما قال:

"اللي بِنَى مصر كان في الأصل حلواني" بل أزيدك وأؤكد لك أنه كان بالتحديد كان "كنفاني"، فالدائرة التي يرسمها الكنفاني هي أشبه بالطريق الدائري الذي يُطوق تلك العاصمة البائسة، وإن لم تصدقني فافتح كتب التاريخ لتجد أن جوهر الصقلي مؤسس قاهرة المعز كان في الأصل حلواني، "وعشان كده مصر يا ولاد ماشية حلواني".

* إذاً فمتى؟ وأين الراحة؟

- تذكر عزيزي نصيحة أمي وأمك الشهيرة: "اتعب دلوقتي في دراستك عشان ترتاح في الثانوية".

* نعم، أذكرها جيداً، وحينما وصلت للثانوية قالت لي مجدداً: "اتعب في الثانوية عشان ترتاح في الجامعة".

- وحين دخلنا الجامعة لم نذق طعم الراحة يوماً ما واضطررت أن أصدقها مرة أخرى حينما قالت لي:

"اتعب في الجامعة حتى ترتاح في وظيفتك".

* أعلم أن هناك قطاعاً كبيراً من بني جيلي قد ارتاح بعد الكلية بالفعل على المقاهي بعد أن فقد الأمل بأن يجد وظيفة مناسبة بعد كل هذا التعب الذي استمر أكثر من عشرين عاماً، ولكنها كانت استراحة محارب، فقد عقد العزم على أن يحزم حقيبته ويسافر بعيداً ربما يجد الراحة المرجوة هناك في بلاد العم "سام"، أو على أقل تقدير في بلاد الشيخ "نواف".

- نعم، أذكر ذلك اليوم جيداً، كنت ترقص فرحاً وأنت في طريقك للمطار وأنت في طريقك للراحة ورغد العيش والحياة الهنيئة هناك.

* كنت مثلك أظنها كذلك، وكنت أظن أنني في طريقي لأرض الأحلام، ولكن سرعان ما تبدد الحلم سريعاً، وسرعان ما واجهت المتاعب مجدداً يا صديقي، ولكنها بنكهة أجنبية، الفرق فقط أنها متاعب منظمة تعرف مواعيدها، ليست متاعب عشوائية كل التي تعيشها، بؤس من نوع جديد، تعيش تعاستك برفاهية، حدثني عن إحساسك وأنت تبحث بالساعات عن مسجد لتصلي فيه إن وجدته؟ أو العناء بأن تجد مطعماً يُقدم طعاماً حلالاً مذبوحاً على الشريعة؟ أو أن تتحرى مكونات كل وجبة تُقدم لك فهل هي خالية من مكونات الخنزير أم لا، تعيش في قلق دائم؟ عن صلاة الجمعة التي اشتقت إليها كثيراً والتي تصادف مواعيد عملك الرسمية، أما عن العنصرية فحدّث ولا حرج، أما عن الإنسانية فهي في أفلامهم فقط، فتنتفض المحطات التلفزيونية لـ"قطة" كانت عالقة بمنزل شبّ فيه الحريق بعد أن تم إنقاذها بنجاح، وهناك أيضاً في نفس الحي أناس يتضورون جوعاً، يبحث كل منهم عن لقيمات بداخل صناديق القمامة يُترك حتى يموت فلا يشعر به أحد، لن أحدثك عن غلاء المعيشة هنا أيضاً فلن يتسع خيالك لما نعانيه، أو لا قدّر الله إذا مرضت وليست لديك شركة تأمين، فاعلم أن زيارتك للمستشفى لمدة سويعات ربما ستكلفك آلاف الدولارات لتبدأ في تقسيطها شهرياً لمدة أعوام دون مبالغة.


- كفى.. الآن فهمتك وفهمت تجربتك ومعاناتك، فالآن لا أمتلك الحُجة لأحاول أن أُبقيك هناك، ولكني أمتلك أيضاً مائة حجة لأمنعك أن تعود مرة أخرى إلى هنا، يبدو أنه لا مفر هنا أو هناك، فعلينا أن نمضي في هذه الحياة ما تبقى لنا من أعمارنا في صمت بلا تذمّر ولا تضجّر، نتعب في صمت على أمل بأن تُصيب نصيحة أمهاتنا هذه المرة بأن
"اتعب في الدنيا عشان ترتاح في الآخرة".

فإن ظننت يوماً ما أنك خُلقت لترتاح في هذه الدنيا فواهمٌ أنت، أنت الإنسان حُملت الأمانة التي أبت أن تحملها السماوات الفسيحة والأرض الوسيعة والجبال الراسيات، فقط حملتها باختيارك؛ لأنك كنت ظلوماً جهولاً، أنت مخلوق قُدّر له أن يعيش في كبد، فلا وقت للراحة في هذه الدنيا، فالجميع في حالة اغتراب دائم في هذا العالم.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mahmoud-khalifa-el-sayed/-_15027_b_19263310.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات