السبت، 17 مارس 2018

ابن رشد: الفيلسوف المُخْتَلَف عليه (2)

ابن رشد: الفيلسوف المُخْتَلَف عليه (2)

استكمالاً لما سبق طرحه في مقال سابق، نعود لنرى كيف نظر المفكرون والباحثون العرب المعاصرون إلى ابن رشد، وكيف حاولوا استدعاءه لرفد واقعنا المعاصر المتخلف.


ابن رشد: مطرود من مجال التداول العربي


على الضد تماماً من موقف العراقي، والجابري بشكل خاص، تقف قراءة الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن لفيلسوف قرطبة الأول ابن رشد الحفيد وموقفه منه؛ بل إن ما دعا طه عبد الرحمن للعودة والحفر في تراث ابن رشد، هو ما حظي به هذا الفيلسوف الكبير من حضور كبير في أوساط المثقفين، ومحاولاتهم استدعاء ما يسمونه منهجه العقلاني، مُعرِضين بذلك عن بقية روافد التراث، وعبد الرحمن يصرح بذلك بشكل واضح في كتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث"، قائلاً: "سارعنا إلى تفحُّص أشهر هذه الأعمال واحداً واحداً، وتفحُّص ما حوته من نظريات واحدة واحدة... وما كدنا نفرغ من تحقيق مذاهب هؤلاء، حتى عاد إلينا الذهول بأشد مما أصابنا من قَبل هذا التحقيق" (20).

والنموذج المخصوص في تقويم التراث، الذي يمكن اعتبار كتاب طه عبد الرحمن المذكور رداً عليه هو نموذج الجابري، فالهدف هو "تحليل النموذج الذي اختُص من بين النماذج التقويمية المتكاثرة بطرح إشكال التجزيء، هو نموذج د. محمد عابد الجابري" (21).

يشد طه عبد الرحمن الرحال صوب التراث، حاملاً سيفه الذي يسميه "مجال التداول"؛ ليبتر كل ما لا ينتمي إلى "المجال التداولي العربي الإسلامي"، وهذا المجال، وكل مجال غيره، قائم على أصول ثلاثة: الأصل العقائدي، والأصل اللغوي، والأصل المعرفي. الخارج عن أحدها خارج عن مجال التداول.


يستقرئ طه عبد الرحمن تداخل الآليات الإنتاجية عند ابن رشد؛ ليؤكد تداخل علم الكلام مع الإلهيات في إنتاج مضامين خطابه الفلسفي، ولكن في مقابل هذا التداخل فابن رشد صاحب نزعة تجزيئية للعلوم، يفصلها بعضها عن بعض.

ولكنّ هذه النزعة التجزيئية متناقضة في الخطاب الرشدي، فهي وإن كانت ذات اتساق صوري، فهي تفتقد أولاً الاتساق الطبيعي، الذي هو "عبارة عن موافقة القول الفلسفي للقول الطبيعي من حيث الدلالة والاستدلال" (٢٢).

فابن رشد من جهةٍ، "يصل بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي متى كان السياق الفلسفي يونانياً. ومن جهة ثانيةٍ، يفصل بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي متى كان السياق الفلسفي عربياً... فيكون أبو الوليد جامعاً بين القول بالتداخل في اليونانية والقول بالتجزيء في العربية، فإذن لا اتساق طبيعياً عنده؛ ومتى ارتفع عن مسلكه التبليغي هذا الاتساق، بطَل القول بنهوض ابن رشد بالشمولية التواصلية للثقافة الإنسانية" (٢٣).

وتفتقد ثانياً الاتساق التداولي، الذي هو "عبارة عن مطابقة القول للفعل مطابقة تُوافق القيم العملية الموجِّهة لمجال التداول" (٢٤).


وهكذا، فإن ابن رشد قد جمع في شخصه وصفين متعارضين؛ هما "التكوين التداخلي" و"التأليف التجزيئي"، فانتسب إلى مجال التداول بفضل تكوينه، وخرج عن هذه النسبة بسبب تأليفه؛ فالنسبة التداولية عنده موجودة ومفقودة معاً، وعلى هذا، فلا اتساق تداولياً عنده؛ ومتى ارتفع عن مسلكه العلمي الاتساق التداولي، بطَل القول بنهوض ابن رشد بالخصوصية المعرفية للثقافة الإسلامية العربية" (25).

هكذا يُطرد ابن رشد خارج ساحة اللعب بالكارت الأحمر، فهو لا ينهض بالخصوصية المعرفية للثقافة العربية الإسلامية، ولا حتى بالشمولية التواصلية للثقافة الإنسانية. ولو سألنا طه عبد الرحمن، هل يستحق ابن رشد كل هذه الضجة؟ فسنجد جوابه الجاهز: "حسبي أنه مُقَلِّد، والمُقَلِّد لا يمكن أن يعوِّل عليه من يطمح إلى تجديد الفكر الفلسفي الإسلامي العربي" (26).

وابن رشد -بعدسة طه عبد الرحمن هذه المرة- إذا كان مُقَلِداً في الفلسفة، فهو ليس مبدعاً حتى في الجوانب الأخرى، وكُتبه الثلاثة، المعدودة عند الباحثين من التأليف الإبداعي، وهي: تهافت التهافت، والكشف عن مناهج الأدلة، وفصل المقال، هي عند طه عبد الرحمن ليست سوى دفاع عن ذلك التقليد: الأول منها ضد الغزالي، والثاني ضد الأشاعرة، والثالث ضد الفقهاء(٢٧).

ولكن ابن رشد فيلسوف إسلامي، ولا يشكُّ في هذا سوى المتعامي، فما هي فلسفة ابن رشد يا عبد الرحمن؟ وجوابه أنها "الفلسفة المفصولة"، "فلسفة منقولة، لكنها لم تتداخل مع المعارف الإسلامية، ولا تعاطت للتوافق مع مقتضيات المجال التداولي الإسلامي، والفلسفة الإسلامية بهذا المعنى هي التي لها، حقيقة، وجود عند ابن رشد" (28).


ابن رشد: تأسيس الأورثوذكسية الأرسطية


لنتوقف قليلاً عند الدكتور جورج طرابيشي، صاحب المشروع الأكبر في "نقد النقد"، رداً على مشروع الجابري في "نقد العقل العربي"، وقد كان له (طرابيشي) نقد لموقف الجابري من الفيلسوفين الكبيرين: ابن سينا، وابن رشد.

وإذا كان كلام طرابيشي يأتي في سياق سجالي نقدي، فلنستعدْ بسرعةٍ موقف الطرف الآخر وهو الجابري، ولنتذكر أنه رفع مستوى نقد ابن رشد لابن سينا إلى مستوى القطيعة الإبستمولوجية (المعرفية)، ليجعل ابن رشد صادراً عن "إشكالية جهوية -حتى لا نقول: إقليمية- وليس لها من مدار معرفي سوى المواجهة بين مشرق ومغرب".

بينما الإشكالية التي يصدر عنها ابن رشد، برأي طرابيشي، هي "إشكالية أُصولية -بمعنى العودة إلى أصل أول- لإحياء السنّة الأرسطية ولتطهير العقيدة القويمة المشائية من (هرطقات) الشراح اليونانيين والإسلاميين على حد سواء". ولكن، هل الأرسطية قابلة للتأسيس أصلاً على عقيدة قويمة؟ وهل ابن رشد نفسه يصدر عن عقيدة أرسطية قويمة؟ وهل تتوافر له (ابن رشد) الأدوات المعرفية والمنهجية والنقدية الضرورية لفصل (الأورثوذكسية) الأرسطية عن ملابساتها الأفلوطينية وعن الهرطقات المشائية (المتراكمة) عليها على مدى 1500 من السنين؟".

وهو "الشيء الذي كان يقتضي -في جملة ما يقتضي- التوفر على نصوص أرسطو بلغتها الأصلية، وتمريرها من عنق زجاجة النقد التأريخي... والانفكاك من أَسر تأويلات الشرّاح واجتهادات المترجمين، فضلاً عن القدرة على الانسلاخ النسبي عن العصر وعن المنظومة المرجعية للعقل العربي الإسلامي لقراءة أرسطو، بالإحالة إلى عصره وضمن المنظومة المرجعية للحضارة اليونانية في لحظة انقلابها الهلنستي".

"وعلى هذا النحو، فابن رشد (بعدسة طرابيشي) بدلاً من أن يعيد بناء الأورثوذكسية الأرسطية، لم يفلح إلا في أن يؤسس عبادة حقيقية لأرسطو". "ولا شك في أن إنجاز ابن رشد الكبير هو في تبنّيه مفهوم البرهان"، ولكن البرهان عنده "ليس هو الصدق الذاتي لنسق منطقي بعينه"، وليس "ما توجبه ضرورة العقل المستقل بنفسه. وإنما البرهان عنده ما كان يطابق أقاويل أرسطو". "فابن رشد لا ينتصر لأرسطو انتصاراً لا مشروطاً ضداً على من تقدَّم عليه وتأخر عنه من الفلاسفة فحسب؛ بل ينتصر له أيضاً، بالصورة اللامشروطة نفسها، ضداً على كل من يخالفه في الأقاويل في شتى مجالات العلم الطبيعي كالطب والفلك والتعاليم والمناظر".


"وإن يكن من شيء يرفضه ابن رشد في الفلسفة، فهو الاعتراف بشرعية الاختلاف". "والواقع أنه عندما يغدو (نهج أرسطو)، بما هو كذلك، هو (فيصل التفرقة) بين ما هو برهاني وما هو غير برهاني، فإن ابن رشد، في التزامه المطلق بهذا المعيار في محاكمة فلاسفة الإسلام، لا يثبت بذلك لا برهانية الفارابي أو ابن سينا، بقدر ما يثبت أنه هو نفسه يقرأ البرهان الأرسطي بعين بيانية".

ويتجلى موقف ابن رشد البياني -كما يرى طرابيشي- في نقده ابن سينا بكتابه "تهافت التهافت"، "وبالفعل، قد أمكن لنا أن نحصي في هذا الكتاب عشرين مرة ونيفاً، يحكم فيها ابن رشد على أقوال خصمه الكبير (ابن سينا)، بأنها (جدلية) ولا (برهانية) لمجرد مخالفتها (كلا الحكيم) [=أرسطو] -أو ما يُعتقد بالأحرى أنه (كلام الحكيم)" (29).



ابن رشد: الهامش الطامع في المركز


بعد الوقوف عند هذه المواقف المتباينة والمتناقضة بشكل صارخ حول فيلسوف قرطبة؛ نحتاج للاستراحة عند موقف أقل "غلواً" وأكثر "إنصافاً" -إذا جاز لنا النعت- وهو عند الدكتور نصر حامد أبو زيد.

في البدء، يحذّر أبو زيد من الوقوع في نمطين شائعين من أنماط الاستدعاء لأفكار ابن رشد الحفيد:
الأول: "استدعاء ابن رشد (هامش) الثقافة العربية الإسلامية في بُعدها التراثي"؛ لأن هذا الاستدعاء "لن يفيدنا أكثر من الدخول في صراع أيديولوجي ضد ممثلي مركز ذلك التراث".


الثاني: استدعاء "averroës بكل ما أضافته إليه الشروح والتفسيرات والقراءات وطورته لتحقيق التنوير"؛ لأننا في هذه الحالة "سنستدعي صيغة التنوير الأوروبي، وهي صيغة تتعرض لنقد شديد".

"إننا نحتاج لقراءتنا الخاصة التي لا تعني الانفصال التام والانعزال الكامل عن القراءة الأوروبية من جهة، ولا تعني من جهة أخرى فصم أواصر التداخل والاشتباك بين ابن رشد وسياقه العربي الإسلامي تأريخياً وحضارياً" (30).

كان ابن رشد يمثل الهامشية، وذلك على مستويين: "مستوى الهامشية الفكرية والعقلية من جهة، ومستوى الهامشية الاجتماعية والسياسية من جهة أخرى".
إنّ جمع ابن رشد بين شخصية الفيلسوف وشخصية الفقيه "يعكس (وعياً) بحالة (التهميش) التي تعانيها الفلسفة، وتعكس (أملاً) بتجاوز حالة التهميش تلك والتحرك إلى الاقتراب من دائرة (المركز)". و"لكن في هذا الأمل بالتحديد، يكمن (تهافت) الخطاب الذي قدمه ابن رشد، ذلك أنه بانخراطه السجالي ضد خطاب (المركز) -خطاب الغزالي بصفة خاصة- كان مضطراً، محكوماً بذلك (الأمل) في التحرك من الهامش، إلى تقديم بعض التنازلات" (31).

لكن ابن رشد يظل، في نظر أبو زيد، "هو هذا العقل المولد في بيئة الأندلس، ملتقى العوالم والثقافات والأديان، هذه البيئة التي أنتجت عقلانية ابن رشد وصوفية ابن عربي وإشراقية ابن طفيل" (32).


__________________

الهوامش

(20) د. طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي، ص9.
(21) ص21.
(22)ص134.
(23) ص136.
(24) ص136.
(25)ص137-138.
(26) د. طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، الطبعة الأولى، 2011م، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص130.
(27) ص125.
(28)ص127.
(29) د. جورج طرابيشي: نقد نقد العقل العربي (وحدة العقل العربي الإسلامي)، الطبعة الأولى، 2002م، دار الساقي، ص132-137.
(30) د. نصر حامد أبو زيد: الخطاب والتأويل، الطبعة الثالثة، 2008م، المركز الثقافي العربي، ص22.
(31) ص24-25.
(32)ص26.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/husin-gabbar/story_b_19368570.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات