يعتبر الألمان من أكثر شعوب العالم توفيراً للمال، حتى إن مستويات ادخارهم وصلت إلى حدِّ عرضهم للانتقادات من بقية شعوب أوروبا، الأمر الذي أثار تساؤلات لدى كثيرين عن السبب وراء هوس الألمان في التوفير.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، فإن أرباب المنازل الألمان يوفرون حوالي 10% من صافي دخلهم، أي ضعف متوسط ما يوفره أمثالهم في أوروبا وأميرك، بل وأكثر من ذلك، فإن معدل التوفير في ألمانيا ثابت على مر السنين بشكل لافت، فهو لا يتأثر بالأزمات الاقتصادية ولا بتغيرات سعر الفائدة.
ويشير تقرير الصحيفة إلى أن عادة توفير الأموال لدى الألمان تُكتسب منذ الصغر، حيث يُعد التقشف جزءاً لا يتجزأ من الصورة التي يمتلكها الألمان عن أنفسهم، وخصلة يشعرون أنها تميزهم عن الأمم الأخرى، ويقول كاي أووي بيتر، المدير الإداري لبنك برلينر سباركاس، وهو بنك ادخار يضم حوالي مليوني عميل في العاصمة، إن توفير الأموال "إنه أكثر من مجرد استراتيجية مالية بسيطة".
ولدى الألمان قناعة راسخة بأن توفير المال وتجنب الديون ليس مجرد مقاربة حكيمة لإدارة دخلك، بل علامة على شيء أعمق، فهم ينظرون للادخار على أنه "الشيء الصحيح أخلاقياً".
ويرى هارولد جيمس المؤرخ الاقتصادي والأستاذ في جامعة برينستون، أن الالتزام الألماني بالتوفير، يعكس أحداثاً ديموغرافية وتاريخية وحتى سيكولوجية، مشيراً أن الألمان على سبيل المثال أكثر قلقاً من الأميركيين.
ويعتقد الألمان أيضاً أنهم يجب أن يستعدوا لأي احتمال بأن شيئاً سيئاً قد يحدث، وأنهم يجب أن يكونوا مستعدين له"، وبالإضافة إلى ذلك يقول جيمس إن الدين يلعب دوراً أيضاً، ويضيف: "يوجد تراث بروتستانتي من التوفير وضبط النفس. وتعني السلوكيات الفاضلة، التخلي عن الإشباع اللحظي".
كان للحرب العالمية الأولى دور رئيسي في هوس الألمان بادخار الأموال، وذلك عندما شُجعوا من خلال حملة دعاية ضخمة لاستثمار مدخراتهم في سندات الحرب، وانتشر في العام 1917 ملصق كُتب عليه: "أفضل بنك للادخار: سندات الحرب"، وأشار تقرير "فايننشال تايمز" إلى أن ملايين الألمان أجابوا النداء، عندما رأوا تآكل ممتلكاتهم والقضاء عليها في نهاية المطاف بسبب التضخم السريع.
ورغم الموت والدمار غير المسبوق من حولهم، حافظ الألمان على الادخار حتى النهاية المريرة. وبحلول سبتمبر/أيلول 1944 قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، كان المدخرون الألمان قد ادخروا 97 مليار رايش مارك، بزيادة 68 ملياراً عما كانوا ادخروه في بداية الحرب، وسبع مرات أكثر من الوقت الذي وصل فيه هتلر إلى السلطة.
ومع ذلك، ومثلما حدث عقب الحرب العالمية الأولى، فإن هذه التوفيرات سوف تطمس بالكامل تقريباً بسبب التضخم، يتبعها إصلاح العملة وإدخال المارك الألماني.
وكما حدث من قبل، لن تثني التجربة الألمان عن الادخار مرة أخرى، بل على العكس، فما بين عامي 1950 و1960، ازدادت ودائع الادخار بعشرة أضعاف، وأشارت صحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن ذلك يدل على أن الادخار "لم يكن أبداً مجرد استراتيجية اقتصادية. بل كان شيئاً اعتيادياً".
وباتت ألمانيا الآن دولة تفخر بثبات الموارد المالية بالميزانيات المتوازنة ومعدلات التوفير العالية، ويقول تقرير "فايننشال تايمز"، إن المجتمع الألماني بأكمله يعرف كيف يؤجل المتعة، ويزمّ حزامه، وينتظر المربى على مائدته غداً.
وقادت القناعات الألمانية لضرورة الادخار، إلى تأسيس أول بنك توفيري في العالم بمدينة هامبورغ عام 1778.
وبحسب تقرير "فايننشال تايمز" فإنه في عام 1850، كان هناك منحو 278 ألف حساب ادخار فقط في مملكة بروسيا بأكملها، لكن بحلول عام 1875، ارتفع العدد إلى 2.21 مليون حساب، وبعد 25 عاماً أخرى تباهت بروسيا بأكثر من 8.67 مليون حساب ادخار، وكان ربع السكان تقريباً مدخرين رسمياً.
وانعكست هذه الطفرة في ازدهار البلاد المتصاعد، لكنها كانت أيضاً نتاج استراتيجية متعمَّدة لتجنب الصراع الاجتماعي والمحافظة على قوى الاشتراكية، واعتُبرت وديعة الادخار حينها بمثابة "سد ضد الإغراءات الشيوعية والفكر الثوري" الذي ينشأ في أولئك الذين ليس لديهم ما يخسرونه.
وقامت فكرة بنوك الادخار في البداية على أنها أداة لتقديم المساعدة لفقراء المدن في محنتهم، حتى يتمكنوا عن طريق اقتطاع أجزاء صغيرة من مكتسباتهم الضئيلة، على توفير تعليم لأطفالهم، وتخفيف المصيبة المالية التي يسببها كبر السن والمرض.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبح الادخار بالنسبة للألمان مرتبطاً بشكل متزايد بالفكرة القومية، ويشرح الوصي على المتحف التاريخي في ألمانيا روبرت موشالا ذلك بقوله، إن الدعوات لتوفير الأموال بدأت تنتشر في المدارس، عبر دعوة الأطفال إلى الادخار، وأشار إلى أن الادخار لم يعد أداة لمحاربة الفقر فحسب، بل يتم النظر إليه كخدمة للأمة.
وقاد ذلك إلى أن ألمانيا ومن خلال بنوك الادخار المحلية التي جعلتها متاحة للبلديات، إلى بناء القنوات، والطرق، وتمويل أعمال الكهرباء والغاز، بالإضافة إلى المدارس والمسارح والحدائق العامة، ووفقاً لتقرير الصحيفة البريطانية فإن "ألمانيا الجديدة بنيت جزئياً على الأقل من الودائع المتراكمة في شبكة من فروع Sparkassen سريعة النمو في جميع أنحاء البلاد".
وتشهد ألمانيا افتتاح معارض تتحدث عن فكرة "توفير الأموال"، ومن بينها معرض جديد سيُقام في المتحف التاريخي الألماني، الذي سيفتتح نهاية هذا الأسبوع في برلين، ويسمى المعرض "التوفير: تاريخ الاستقامة الألمانية" وسيضم ثروة من الأشياء واللوحات والملصقات والوثائق التي تتعقب تاريخ التوفير في ألمانيا، بدءاً من أواخر عصر التنوير إلى أزمة منطقة اليورو.
وأشار تقرير "فايننشال تايمز" إلى أن المعرض يؤكد على أن الالتزام الألماني بالتوفير أعمق بكثير من الأخلاق الشخصية، وأبعد ما يكون عن السعي الفردي الخالص، بل يُنظر للتوفير على أنه نشاط يخدم غرضاً جماعياً، ووطنياً بالطبع.
وعند الحديث عن تاريخ الادخار، يتذكر الألمان هانز إيتشل، البالغ من العمر 76 عاماً، الذي يُعد نموذجاً لوزير المالية الألماني. فهو اقتصادي، ومنضبط، ومتصلب برأيه.
وشغل إيتشل، الديمقراطي الاشتراكي المخضرم المنصب من عام 1999 حتى 2005، ولا يزال يُذكر بلقبه The Sparkommissar مفوض الادخار.
حصل هانز إيتشل على اللقب بعد فترة وجيزة من توليه المنصب، فقد قرَّر خفض الإنفاق بنحو 15 مليار يورو في ضربة واحدة، عندما واجه عجزاً كبيراً في الميزانية، وأشادت صحيفة Bild الشعبية بعمله البطولي، بالعنوان المثير للإعجاب "Er raisiert uns alle!"- إنه يحلق لنا جميعاً.
ولم تكن المفاجأة في تمريره حزمة تقشف هائلة، لكن لأن المصوتين أحبوه لأجلها. ويتذكر إيتشيل الأمر مبتسماً "كانت هناك بعض الشكاوى والمظاهرات، لكنها نالت القبول والشعبية. كانت شعبية جداً إلى درجة أنه في الحملة الانتخابية التالية دعيت في كل مكان للتحدث في المؤتمرات الانتخابية. وبدأت في شرح السياسة المالية للناس. كان الأمر سهلاً".
وهذه الحادثة وضعت معايير لأصحاب المناصب المستقبليين: لا يجب على وزراء المالية الألمان كسب إعجاب ودعم الناخبين عن طريق الوعود بتخفيضات ضريبية وزيادة النفقات، ولكن من خلال إثبات انضباطهم المالي.
وقرَّر إيشيل تحقيق أقصى استفادة من شهرته. عندما اقترب منه أحد الناخبين المعجبين به وقدم له حصالة على شكل خنزير، وضعها الوزير على مكتبه. هذه، أيضاً، سارت بشكل جيد مع الألمان، الذين بدأوا يرسلون له حصالات على شكل خنزير من جميع أنحاء البلاد. حتى إنه تلقَّى خنزيراً أحمر زاهي اللون من وفد صيني زائر.
نعم، لا يزال الألمان متمسكين بالادخار، ولا يزال القلق يساورهم من أن تصيب الأضرار مدخراتهم بسبب التضخم، أو عن طريق معدلات الفوائد المنخفضة، أو المكائد الغامضة لمصرفيي البنك المركزي الأوروبي والسياسيين.
كما أنهم ما زالوا ينظرون نظرة ازدراء تجاه سوق الأسهم، وما زالوا يولون ثقتهم الكاملة لبنوك الادخار التي عفى عليها الزمن، وحالياً تستحوذ بنوك الادخار الألمانية على 37% من كل الودائع.
أما الشيء الذي تغيَّر الآن فهو أن الأطفال الألمان لم يعودوا عرضة لنفس نوع الدعاية الفجة التي ميَّزت العهود السابقة، بل أصبحوا يتعرضون لطريقة أكثر حداثة في دعوتهم لتوفير الأموال، كقيام أحد بنوك الادخار بمنح الأطفال ملفاً مليئاً بالأموال غير الحقيقية للعب، ومنها يدعونهم إلى الادخار.
وتختتم صحيفة "فايننشال تايمز" تقريرها بالقول إن صناديق النقود الملطخة بالصدأ والملصقات الباهتة توضح لك أن جذور التقشف الألماني عميقة للغاية. وتضيف: "من الصعب إقناع الحكومة بتغيير سياستها المالية. ويبقى الأكثر صعوبة هو إقناع أمة بالتخلي عن فكرتها عن الفضيلة".
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، فإن أرباب المنازل الألمان يوفرون حوالي 10% من صافي دخلهم، أي ضعف متوسط ما يوفره أمثالهم في أوروبا وأميرك، بل وأكثر من ذلك، فإن معدل التوفير في ألمانيا ثابت على مر السنين بشكل لافت، فهو لا يتأثر بالأزمات الاقتصادية ولا بتغيرات سعر الفائدة.
ويشير تقرير الصحيفة إلى أن عادة توفير الأموال لدى الألمان تُكتسب منذ الصغر، حيث يُعد التقشف جزءاً لا يتجزأ من الصورة التي يمتلكها الألمان عن أنفسهم، وخصلة يشعرون أنها تميزهم عن الأمم الأخرى، ويقول كاي أووي بيتر، المدير الإداري لبنك برلينر سباركاس، وهو بنك ادخار يضم حوالي مليوني عميل في العاصمة، إن توفير الأموال "إنه أكثر من مجرد استراتيجية مالية بسيطة".
ولدى الألمان قناعة راسخة بأن توفير المال وتجنب الديون ليس مجرد مقاربة حكيمة لإدارة دخلك، بل علامة على شيء أعمق، فهم ينظرون للادخار على أنه "الشيء الصحيح أخلاقياً".
ويرى هارولد جيمس المؤرخ الاقتصادي والأستاذ في جامعة برينستون، أن الالتزام الألماني بالتوفير، يعكس أحداثاً ديموغرافية وتاريخية وحتى سيكولوجية، مشيراً أن الألمان على سبيل المثال أكثر قلقاً من الأميركيين.
ويعتقد الألمان أيضاً أنهم يجب أن يستعدوا لأي احتمال بأن شيئاً سيئاً قد يحدث، وأنهم يجب أن يكونوا مستعدين له"، وبالإضافة إلى ذلك يقول جيمس إن الدين يلعب دوراً أيضاً، ويضيف: "يوجد تراث بروتستانتي من التوفير وضبط النفس. وتعني السلوكيات الفاضلة، التخلي عن الإشباع اللحظي".
نشوء فكرة الادخار
كان للحرب العالمية الأولى دور رئيسي في هوس الألمان بادخار الأموال، وذلك عندما شُجعوا من خلال حملة دعاية ضخمة لاستثمار مدخراتهم في سندات الحرب، وانتشر في العام 1917 ملصق كُتب عليه: "أفضل بنك للادخار: سندات الحرب"، وأشار تقرير "فايننشال تايمز" إلى أن ملايين الألمان أجابوا النداء، عندما رأوا تآكل ممتلكاتهم والقضاء عليها في نهاية المطاف بسبب التضخم السريع.
ورغم الموت والدمار غير المسبوق من حولهم، حافظ الألمان على الادخار حتى النهاية المريرة. وبحلول سبتمبر/أيلول 1944 قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، كان المدخرون الألمان قد ادخروا 97 مليار رايش مارك، بزيادة 68 ملياراً عما كانوا ادخروه في بداية الحرب، وسبع مرات أكثر من الوقت الذي وصل فيه هتلر إلى السلطة.
ومع ذلك، ومثلما حدث عقب الحرب العالمية الأولى، فإن هذه التوفيرات سوف تطمس بالكامل تقريباً بسبب التضخم، يتبعها إصلاح العملة وإدخال المارك الألماني.
وكما حدث من قبل، لن تثني التجربة الألمان عن الادخار مرة أخرى، بل على العكس، فما بين عامي 1950 و1960، ازدادت ودائع الادخار بعشرة أضعاف، وأشارت صحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن ذلك يدل على أن الادخار "لم يكن أبداً مجرد استراتيجية اقتصادية. بل كان شيئاً اعتيادياً".
وباتت ألمانيا الآن دولة تفخر بثبات الموارد المالية بالميزانيات المتوازنة ومعدلات التوفير العالية، ويقول تقرير "فايننشال تايمز"، إن المجتمع الألماني بأكمله يعرف كيف يؤجل المتعة، ويزمّ حزامه، وينتظر المربى على مائدته غداً.
بنك التوفير الأول بالعالم في ألمانيا
وقادت القناعات الألمانية لضرورة الادخار، إلى تأسيس أول بنك توفيري في العالم بمدينة هامبورغ عام 1778.
وبحسب تقرير "فايننشال تايمز" فإنه في عام 1850، كان هناك منحو 278 ألف حساب ادخار فقط في مملكة بروسيا بأكملها، لكن بحلول عام 1875، ارتفع العدد إلى 2.21 مليون حساب، وبعد 25 عاماً أخرى تباهت بروسيا بأكثر من 8.67 مليون حساب ادخار، وكان ربع السكان تقريباً مدخرين رسمياً.
وانعكست هذه الطفرة في ازدهار البلاد المتصاعد، لكنها كانت أيضاً نتاج استراتيجية متعمَّدة لتجنب الصراع الاجتماعي والمحافظة على قوى الاشتراكية، واعتُبرت وديعة الادخار حينها بمثابة "سد ضد الإغراءات الشيوعية والفكر الثوري" الذي ينشأ في أولئك الذين ليس لديهم ما يخسرونه.
وقامت فكرة بنوك الادخار في البداية على أنها أداة لتقديم المساعدة لفقراء المدن في محنتهم، حتى يتمكنوا عن طريق اقتطاع أجزاء صغيرة من مكتسباتهم الضئيلة، على توفير تعليم لأطفالهم، وتخفيف المصيبة المالية التي يسببها كبر السن والمرض.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبح الادخار بالنسبة للألمان مرتبطاً بشكل متزايد بالفكرة القومية، ويشرح الوصي على المتحف التاريخي في ألمانيا روبرت موشالا ذلك بقوله، إن الدعوات لتوفير الأموال بدأت تنتشر في المدارس، عبر دعوة الأطفال إلى الادخار، وأشار إلى أن الادخار لم يعد أداة لمحاربة الفقر فحسب، بل يتم النظر إليه كخدمة للأمة.
وقاد ذلك إلى أن ألمانيا ومن خلال بنوك الادخار المحلية التي جعلتها متاحة للبلديات، إلى بناء القنوات، والطرق، وتمويل أعمال الكهرباء والغاز، بالإضافة إلى المدارس والمسارح والحدائق العامة، ووفقاً لتقرير الصحيفة البريطانية فإن "ألمانيا الجديدة بنيت جزئياً على الأقل من الودائع المتراكمة في شبكة من فروع Sparkassen سريعة النمو في جميع أنحاء البلاد".
معارض للادخار
وتشهد ألمانيا افتتاح معارض تتحدث عن فكرة "توفير الأموال"، ومن بينها معرض جديد سيُقام في المتحف التاريخي الألماني، الذي سيفتتح نهاية هذا الأسبوع في برلين، ويسمى المعرض "التوفير: تاريخ الاستقامة الألمانية" وسيضم ثروة من الأشياء واللوحات والملصقات والوثائق التي تتعقب تاريخ التوفير في ألمانيا، بدءاً من أواخر عصر التنوير إلى أزمة منطقة اليورو.
وأشار تقرير "فايننشال تايمز" إلى أن المعرض يؤكد على أن الالتزام الألماني بالتوفير أعمق بكثير من الأخلاق الشخصية، وأبعد ما يكون عن السعي الفردي الخالص، بل يُنظر للتوفير على أنه نشاط يخدم غرضاً جماعياً، ووطنياً بالطبع.
وعند الحديث عن تاريخ الادخار، يتذكر الألمان هانز إيتشل، البالغ من العمر 76 عاماً، الذي يُعد نموذجاً لوزير المالية الألماني. فهو اقتصادي، ومنضبط، ومتصلب برأيه.
وشغل إيتشل، الديمقراطي الاشتراكي المخضرم المنصب من عام 1999 حتى 2005، ولا يزال يُذكر بلقبه The Sparkommissar مفوض الادخار.
حصل هانز إيتشل على اللقب بعد فترة وجيزة من توليه المنصب، فقد قرَّر خفض الإنفاق بنحو 15 مليار يورو في ضربة واحدة، عندما واجه عجزاً كبيراً في الميزانية، وأشادت صحيفة Bild الشعبية بعمله البطولي، بالعنوان المثير للإعجاب "Er raisiert uns alle!"- إنه يحلق لنا جميعاً.
ولم تكن المفاجأة في تمريره حزمة تقشف هائلة، لكن لأن المصوتين أحبوه لأجلها. ويتذكر إيتشيل الأمر مبتسماً "كانت هناك بعض الشكاوى والمظاهرات، لكنها نالت القبول والشعبية. كانت شعبية جداً إلى درجة أنه في الحملة الانتخابية التالية دعيت في كل مكان للتحدث في المؤتمرات الانتخابية. وبدأت في شرح السياسة المالية للناس. كان الأمر سهلاً".
وهذه الحادثة وضعت معايير لأصحاب المناصب المستقبليين: لا يجب على وزراء المالية الألمان كسب إعجاب ودعم الناخبين عن طريق الوعود بتخفيضات ضريبية وزيادة النفقات، ولكن من خلال إثبات انضباطهم المالي.
وقرَّر إيشيل تحقيق أقصى استفادة من شهرته. عندما اقترب منه أحد الناخبين المعجبين به وقدم له حصالة على شكل خنزير، وضعها الوزير على مكتبه. هذه، أيضاً، سارت بشكل جيد مع الألمان، الذين بدأوا يرسلون له حصالات على شكل خنزير من جميع أنحاء البلاد. حتى إنه تلقَّى خنزيراً أحمر زاهي اللون من وفد صيني زائر.
هل يدخر الألمان حتى اليوم؟
نعم، لا يزال الألمان متمسكين بالادخار، ولا يزال القلق يساورهم من أن تصيب الأضرار مدخراتهم بسبب التضخم، أو عن طريق معدلات الفوائد المنخفضة، أو المكائد الغامضة لمصرفيي البنك المركزي الأوروبي والسياسيين.
كما أنهم ما زالوا ينظرون نظرة ازدراء تجاه سوق الأسهم، وما زالوا يولون ثقتهم الكاملة لبنوك الادخار التي عفى عليها الزمن، وحالياً تستحوذ بنوك الادخار الألمانية على 37% من كل الودائع.
أما الشيء الذي تغيَّر الآن فهو أن الأطفال الألمان لم يعودوا عرضة لنفس نوع الدعاية الفجة التي ميَّزت العهود السابقة، بل أصبحوا يتعرضون لطريقة أكثر حداثة في دعوتهم لتوفير الأموال، كقيام أحد بنوك الادخار بمنح الأطفال ملفاً مليئاً بالأموال غير الحقيقية للعب، ومنها يدعونهم إلى الادخار.
وتختتم صحيفة "فايننشال تايمز" تقريرها بالقول إن صناديق النقود الملطخة بالصدأ والملصقات الباهتة توضح لك أن جذور التقشف الألماني عميقة للغاية. وتضيف: "من الصعب إقناع الحكومة بتغيير سياستها المالية. ويبقى الأكثر صعوبة هو إقناع أمة بالتخلي عن فكرتها عن الفضيلة".
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/2018/03/25/story_n_19408263.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات