أفلح أيمن في مخاتلتي وأنا أقرأ روايته التي تُوقف الدم في العروق، أفلح في أن يُبقيني حائراً؛ بين أن أقرأ عملاً روائياً معظمه من نسج الخيال، وأن أقرأ مذكرات شخصية، خدعني بمقدمته التي يريد أن يبرِّئ نفسه فيها من تحمُّل مسؤولية ما ورد في هذه المذكرات، فإنما هي مذكرات "ورد شاهين" قائد جموع الطلبة التي قامت باحتجاجات جامعة إربد في عام 1986، وأن ورداً أعطاه ما كتب هو وما جمع مما سجله مشاركون في هذه الهبَّة الطلابية، التي لم تسبق من قبلُ، ويبدو أنها كانت الخاتمة لأي تحركات طلابية في ذلك البلد.
لقد سجل الكاتب أقوى إدانة صدرت بحق أجهزة الأمن هناك، كانت أجهزة الأمن مشهورة بأسلوبها البعيد عن الفظاظة في التعامل مع هذه التحركات الجماهيرية، واستطاعت المؤسسة الأولى أن تبرز وجهاً أبوياً يحتوي الجميع ويعلو على الجميع برفقٍ وحنانٍ.
هنا تأتي هذه الرواية لتقول لنا: لا تكونوا من المخدوعين، فهاتان المؤسستان إنما برز وجههما الناعم؛ لأن المعارضة منذ سيطر عليها الإسلاميون حافظت على بقائها في مربعات النعومة وعلى ما يشبه غض الطرف في التعامل مع القصر، الطلبة قاموا بتحرك حضاري، لم يتحركوا ضد سلطة الدولة، ولا ضد قانون البلد ولا لأجندة لا تخصهم، لم يهاجموا منشأة ولم يهتفوا ضد أحد ولم يقوموا بحركة واحدة يمكن أن تُفسر على أنها شغب، وكان تحركهم عادلاً، في قضية مسَّت الطبقة الفقيرة التي هي غالبية الشعب، كشَّرت السلطة عن أنيابها ومخالبها وأظهرت دموية لا تقل عن أية ديكتاتوريات أخرى.
إن مجرد نجاح الطلاب في التوحد على اختلاف مشاربهم، وإظهار الوجه الحضاري لأنفسهم أقضَّ مضجع السلطة وحرَّك شهواتها الحيوانية للدم، لتكون النتيجة شباباً تُقتل وفتيات -مثل سها- يُدسن بالأقدام، وأخريات كـ"كندة"، التي لم يترفق الأشاوس بعَرَجها، فكانت عظامها لحوم شاورما على عجلات المجنزرة التي داستها.
ما لم يصرح به الكاتب، هو الإدانة للحركة الأم وتخلُّفها عن أبنائها، أرسلت أولاً "السلطي" ليتفاهم مع الطلاب طالباً التهدئة، ثم اجتمع بهم "أبو عبد الله"؛ ليقتنع بالتصعيد الطلابي طالما انضبط بالتقاليد الجامعية، ووفر للطلبة مأوى في بعض المساجد لمن فقد المأوى من الطلاب وبعض الماء والتمر للطلاب الصائمين، الذين منهم من واصل الليل بالنهار صائماً في الأيام الخمسة، ثم أرسلوا للطلاب بالفرج الإخواني، الشيخ الذي يوقف المنابر.
جاء بطل المنابر ليتوسط في استجابة أقل من جزئية لبعض المطالب مع استمرار منع الأهم، ثم وبوجه لا أعرف كيف أصفه، يأتي ليبلغ الطلاب أن الأمن عاقدٌ العزم على فض الاعتصام بالقوة.. عفارم على هذه الحركة الجبانة العاجزة، قضى أبناؤهم 5 أيام بعشرات الألوف في ساحة التظاهر، وفي اليوم الثالث انضمت إلى الشباب الشابات.. الشابات -اللاتي ألغتهم تقاليد نسبوها زوراً للدين- حملن الراية ونافسن على الشهادة.
كل ذلك والحركة العظيمة عاجزة عن أن تحرِّك جماهير الناس الذين يُقتل أبناؤهم داخل حرم الجامعة! يجب أن يُكتب التاريخ بمداد التقزز إدانةً لهذا الجبن والتخلف عن حركة الجماهير والطلاب والسنن الكونية؛ بل إن الأهالي شاركوا إيجابياً بما يمليه الواجب أكثر مما فعلت الحركة الأم.
العتوم يتركنا في روايته نتقلَّب على جمر الغضا، نحترق مع طلابنا، ويحرقنا غيظاً من جور السلطة بكل فروعها من رجال البادية إلى المؤسسة الأولى، وكذلك من تخلف الحركة التي تبيع للناس كلمات.. ولعله الرفق بهذه الحركة الذي جعل الكاتب يوقف التصعيد الروائي ويتوقف عند الذكريات (والضرب في الميت حرام).
إذا تجاوزنا إلى الإطار الروائي، فإن الكاتب أبدع في هندسة الرواية، من مدخلها الذي ترك للراوي أن يصف صوراً من ذكرياته؛ ليؤكد أن دوره البطولي كان دوراً يستطيع كل مواطن أن يمارسه إذا فُرضت عليه الظروف نفسها، أبدع الروائي في إنشاء شخصية "أمينة" التي كانت المعادل الموضوعي للوطن، "أمينة" الوطن فتحت بيتها لكل أطياف الوطن ورعت ثوريتهم، وضبطت إيقاع قلوبهم على بوصلة الوطن.
"أمينة" عاشت على ذكريات زوجها الطيار، "ناصر"، الذي استُشهد دفاعاً عن الوطن، وكان استشهاده يمثل في الرواية وفي حياة الوطن نهاية طموح التحرير، وأدهشني اختيار اسم "ناصر"، فهو عند القوميين أيقونة، وعند الإسلاميين لقب صلاح الدين، رمز روائي باذخ. استطاع العتوم بشخصية "أمينة" أن يوفر العنصر النسائي الذي يغيب عن أدبيات الإسلاميين، وبقيت "أمينة" أمينة على أحلام الوطن وحياة أبنائه.
الشخصية الروائية البالغة الثراء أيضاً، كانت شخصية الخال الذي سرح في العالم باحثاً عن الصلاح والحكمة والثورة، ثم عاد ينصحنا بالكتب حتى نصل إلى مستوى الثورة، وككثير من المثقفين يعطوننا حكمة لم تنتجها جماهيرنا بالتجربة، فتبقى مزهوَّة ببريقها دون أن تفارق الورق.
يقيد شخصيات العتوم الروائية نفَسه الشاعري الذي يغريه بالأسلوب والتكرار والسجع، وأحياناً تجد بعض الفصول الزائدة عن الحاجة، غير أنها تحمل ما يشبه المقطوعة الشعرية، وأحيانا يورِّط ذلك في التكرار وفي الخطأ المعنوي؛ ففي سطرين متتابعين تجده يقول: "غصت الساحة بالطلاب رغم أن السياق يشيع الفرح بازدحامهم من أجل حقهم"، فلا تتناسب استعارة الغصة هنا تعبيراً عن الامتلاء المؤذي. وفي السطر التالي، غصت نفسه بالفرح، لكن الفرح لا يخلق غصة في النفس، إلا إن كان كاذباً، والاستعارة وإن استُخدمت للدلالة على الوفرة، فاللفظ يدل على الضيق ولا يناسب المقام.
ولم أفهم سبباً لولع العتوم بوضع العناوين على كل فصل إلا الرغبة في توجيه القارئ للمغزى وفرض فهم واحد عليه، بينما الفن الروائي يترك بعض الغموض ليستثير ذكاء القارئ، وأعتقد أن الكاتب لو ترك لخياله الروائي العنان لربما رسم لنا شخصية الطالب الذي يعمل عيناً للمخابرات ومدى ما تحتويه نفسه من انحرافات، كما أن تأخر نزول الطالبات إلى الميدان وإن دل على عجز العقلية الإخوانية عن الاستثمار في العنصر النسائي، فإن التفكير الروائي ما كان ليدع هذه المسألة؛ بل كان سيأخذ نموذجاً من الفتيات اللاتي استجبن للتحدي وكسرن التابوهات ونزلن ليُثرين المسيرة الطلابية.
كان بالضرورة سيدخل إلى نفوسهن الثائرة ويعالج تهيُّؤها للتمرد وصراعها مع القيود التي تكبِّلها رغم أنها لا تمتُّ إلى الدين بِصلة، ولكن التزام الشاعر بالمذكرات نفسها ابتسر هذه الشخصيات التي لو أُتيح لها النمو الفني الطبيعي لزادت من ثراء الرواية، إلى ذلك فإن الشاعر تدخَّل فيما وضعه من مقال على لسان بعض الشخصيات، حتى إن يوميات صديقه الشيوعي في السجن تحفل بتعبيرات صوفية، ومناجاة "أمينة" لطيف زوجها تبدو كأنها مناجاة شاعر، مع أنها كانت أقرب إلى الأمية، وما كان يمنع أن يستخدم تعبيرات تناسب مستواها الثقافي وأن يترك لصدق المعنى أن يرتفع بالكلمات البسيطة، وكم سمعنا تعبيرات عامية بسيطة طاولت بصدقها تعبيرات المتنبي.
إن العتوم مدين لي بليالٍ من الأرق والعذاب النبيل، أرق نحتاج منه أكثر وأكثر حتى لا نترك ليلنا لنوم لم نصحُ منه بعد.
لقد سجل الكاتب أقوى إدانة صدرت بحق أجهزة الأمن هناك، كانت أجهزة الأمن مشهورة بأسلوبها البعيد عن الفظاظة في التعامل مع هذه التحركات الجماهيرية، واستطاعت المؤسسة الأولى أن تبرز وجهاً أبوياً يحتوي الجميع ويعلو على الجميع برفقٍ وحنانٍ.
هنا تأتي هذه الرواية لتقول لنا: لا تكونوا من المخدوعين، فهاتان المؤسستان إنما برز وجههما الناعم؛ لأن المعارضة منذ سيطر عليها الإسلاميون حافظت على بقائها في مربعات النعومة وعلى ما يشبه غض الطرف في التعامل مع القصر، الطلبة قاموا بتحرك حضاري، لم يتحركوا ضد سلطة الدولة، ولا ضد قانون البلد ولا لأجندة لا تخصهم، لم يهاجموا منشأة ولم يهتفوا ضد أحد ولم يقوموا بحركة واحدة يمكن أن تُفسر على أنها شغب، وكان تحركهم عادلاً، في قضية مسَّت الطبقة الفقيرة التي هي غالبية الشعب، كشَّرت السلطة عن أنيابها ومخالبها وأظهرت دموية لا تقل عن أية ديكتاتوريات أخرى.
إن مجرد نجاح الطلاب في التوحد على اختلاف مشاربهم، وإظهار الوجه الحضاري لأنفسهم أقضَّ مضجع السلطة وحرَّك شهواتها الحيوانية للدم، لتكون النتيجة شباباً تُقتل وفتيات -مثل سها- يُدسن بالأقدام، وأخريات كـ"كندة"، التي لم يترفق الأشاوس بعَرَجها، فكانت عظامها لحوم شاورما على عجلات المجنزرة التي داستها.
ما لم يصرح به الكاتب، هو الإدانة للحركة الأم وتخلُّفها عن أبنائها، أرسلت أولاً "السلطي" ليتفاهم مع الطلاب طالباً التهدئة، ثم اجتمع بهم "أبو عبد الله"؛ ليقتنع بالتصعيد الطلابي طالما انضبط بالتقاليد الجامعية، ووفر للطلبة مأوى في بعض المساجد لمن فقد المأوى من الطلاب وبعض الماء والتمر للطلاب الصائمين، الذين منهم من واصل الليل بالنهار صائماً في الأيام الخمسة، ثم أرسلوا للطلاب بالفرج الإخواني، الشيخ الذي يوقف المنابر.
جاء بطل المنابر ليتوسط في استجابة أقل من جزئية لبعض المطالب مع استمرار منع الأهم، ثم وبوجه لا أعرف كيف أصفه، يأتي ليبلغ الطلاب أن الأمن عاقدٌ العزم على فض الاعتصام بالقوة.. عفارم على هذه الحركة الجبانة العاجزة، قضى أبناؤهم 5 أيام بعشرات الألوف في ساحة التظاهر، وفي اليوم الثالث انضمت إلى الشباب الشابات.. الشابات -اللاتي ألغتهم تقاليد نسبوها زوراً للدين- حملن الراية ونافسن على الشهادة.
كل ذلك والحركة العظيمة عاجزة عن أن تحرِّك جماهير الناس الذين يُقتل أبناؤهم داخل حرم الجامعة! يجب أن يُكتب التاريخ بمداد التقزز إدانةً لهذا الجبن والتخلف عن حركة الجماهير والطلاب والسنن الكونية؛ بل إن الأهالي شاركوا إيجابياً بما يمليه الواجب أكثر مما فعلت الحركة الأم.
العتوم يتركنا في روايته نتقلَّب على جمر الغضا، نحترق مع طلابنا، ويحرقنا غيظاً من جور السلطة بكل فروعها من رجال البادية إلى المؤسسة الأولى، وكذلك من تخلف الحركة التي تبيع للناس كلمات.. ولعله الرفق بهذه الحركة الذي جعل الكاتب يوقف التصعيد الروائي ويتوقف عند الذكريات (والضرب في الميت حرام).
إذا تجاوزنا إلى الإطار الروائي، فإن الكاتب أبدع في هندسة الرواية، من مدخلها الذي ترك للراوي أن يصف صوراً من ذكرياته؛ ليؤكد أن دوره البطولي كان دوراً يستطيع كل مواطن أن يمارسه إذا فُرضت عليه الظروف نفسها، أبدع الروائي في إنشاء شخصية "أمينة" التي كانت المعادل الموضوعي للوطن، "أمينة" الوطن فتحت بيتها لكل أطياف الوطن ورعت ثوريتهم، وضبطت إيقاع قلوبهم على بوصلة الوطن.
"أمينة" عاشت على ذكريات زوجها الطيار، "ناصر"، الذي استُشهد دفاعاً عن الوطن، وكان استشهاده يمثل في الرواية وفي حياة الوطن نهاية طموح التحرير، وأدهشني اختيار اسم "ناصر"، فهو عند القوميين أيقونة، وعند الإسلاميين لقب صلاح الدين، رمز روائي باذخ. استطاع العتوم بشخصية "أمينة" أن يوفر العنصر النسائي الذي يغيب عن أدبيات الإسلاميين، وبقيت "أمينة" أمينة على أحلام الوطن وحياة أبنائه.
الشخصية الروائية البالغة الثراء أيضاً، كانت شخصية الخال الذي سرح في العالم باحثاً عن الصلاح والحكمة والثورة، ثم عاد ينصحنا بالكتب حتى نصل إلى مستوى الثورة، وككثير من المثقفين يعطوننا حكمة لم تنتجها جماهيرنا بالتجربة، فتبقى مزهوَّة ببريقها دون أن تفارق الورق.
يقيد شخصيات العتوم الروائية نفَسه الشاعري الذي يغريه بالأسلوب والتكرار والسجع، وأحياناً تجد بعض الفصول الزائدة عن الحاجة، غير أنها تحمل ما يشبه المقطوعة الشعرية، وأحيانا يورِّط ذلك في التكرار وفي الخطأ المعنوي؛ ففي سطرين متتابعين تجده يقول: "غصت الساحة بالطلاب رغم أن السياق يشيع الفرح بازدحامهم من أجل حقهم"، فلا تتناسب استعارة الغصة هنا تعبيراً عن الامتلاء المؤذي. وفي السطر التالي، غصت نفسه بالفرح، لكن الفرح لا يخلق غصة في النفس، إلا إن كان كاذباً، والاستعارة وإن استُخدمت للدلالة على الوفرة، فاللفظ يدل على الضيق ولا يناسب المقام.
ولم أفهم سبباً لولع العتوم بوضع العناوين على كل فصل إلا الرغبة في توجيه القارئ للمغزى وفرض فهم واحد عليه، بينما الفن الروائي يترك بعض الغموض ليستثير ذكاء القارئ، وأعتقد أن الكاتب لو ترك لخياله الروائي العنان لربما رسم لنا شخصية الطالب الذي يعمل عيناً للمخابرات ومدى ما تحتويه نفسه من انحرافات، كما أن تأخر نزول الطالبات إلى الميدان وإن دل على عجز العقلية الإخوانية عن الاستثمار في العنصر النسائي، فإن التفكير الروائي ما كان ليدع هذه المسألة؛ بل كان سيأخذ نموذجاً من الفتيات اللاتي استجبن للتحدي وكسرن التابوهات ونزلن ليُثرين المسيرة الطلابية.
كان بالضرورة سيدخل إلى نفوسهن الثائرة ويعالج تهيُّؤها للتمرد وصراعها مع القيود التي تكبِّلها رغم أنها لا تمتُّ إلى الدين بِصلة، ولكن التزام الشاعر بالمذكرات نفسها ابتسر هذه الشخصيات التي لو أُتيح لها النمو الفني الطبيعي لزادت من ثراء الرواية، إلى ذلك فإن الشاعر تدخَّل فيما وضعه من مقال على لسان بعض الشخصيات، حتى إن يوميات صديقه الشيوعي في السجن تحفل بتعبيرات صوفية، ومناجاة "أمينة" لطيف زوجها تبدو كأنها مناجاة شاعر، مع أنها كانت أقرب إلى الأمية، وما كان يمنع أن يستخدم تعبيرات تناسب مستواها الثقافي وأن يترك لصدق المعنى أن يرتفع بالكلمات البسيطة، وكم سمعنا تعبيرات عامية بسيطة طاولت بصدقها تعبيرات المتنبي.
إن العتوم مدين لي بليالٍ من الأرق والعذاب النبيل، أرق نحتاج منه أكثر وأكثر حتى لا نترك ليلنا لنوم لم نصحُ منه بعد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/saleh-alshahri/post_17034_b_19363990.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات