البوابة العربية للأخبار التقنية البوابة العربية للأخبار التقنية
بقلم: د. عمار بكار
لم يعد سرا اليوم أن الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية الأخيرة (2016) مثلت انطلاقة صادمة وغير سارة لاستخدام المنصات الرقمية والشبكات الاجتماعية في نشر “الأخبار المزيفة” (Fake News). استخدمت هذه الأخبار بشكل خاص ضد الحزب الديمقراطي. وبعيدا عن الجدل الواسع حول دور هذه الأخبار في فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمنصبه، فإن المؤكد، حسب تقارير الكونغرس والأف بي آي، أن الاستخبارات الروسية ساهمت بشكل كبير في هذه الظاهرة، التي ما زالت حتى يومنا هذا جزءا أساسيا من الصراع السياسي بين الحزبين الكبيرين في أميركا.
الأخبار المزيفة أمر ليس بجديد على صناعة الإعلام، فالصحافة الصفراء مصطلح قديم لتلك الصحف التي تحقق المال من خلال الإثارة الصحفية باستخدام أخبار مزيفة أو مبالغ فيها. ولكنها كانت ظاهرة محدودة، ومن يستهلكون الصحف الصفراء يفعلون ذلك غالبا من باب الترفيه. أما مع تطور المنصات الرقمية وقريبا تقنيات الذكاء الاصطناعي، صارت تلك الظاهرة ـ في رأيي ـ وحشا مرعبا قد يؤثر على صناعة الإعلام بشكل عام ويغيرها جذريا على المدى الطويل.
في 2016، قامت روسيا بتجربة شكل آخر من الأخبار المزيفة
تقوم عملية “تزييف الأخبار” بشكلها الجديد على كتابة عناوين مثيرة، ونشرها على الشبكات الاجتماعية، بحيث تقودك لما يبدو وكأنها مواقع إخبارية حقيقية من حيث الشكل والمضمون. ولأن الناس تعودت على أن الإخراج الرصين والهوية الجمالية المناسبة تعني فعلا وجود موقع إخباري حقيقي وراء الأخبار، فهم يتعاملون معها بنسبة عالية من المصداقية، ويساهم ذلك في نشرهم للأخبار إلى أصدقائهم على تلك الشبكات الاجتماعية، وتأتي المشكلة الأكبر حين تتعامل تلك المنصات (خاصة غوغل وفيسبوك) أيضا بمصداقية مع هذه المواقع المزيفة، وتبدأ في إبراز تلك الأخبار للجمهور. لذلك سميت هذه الاخبار المزيفة بمصطلح “Clickbait” أي الطعم الذي يدفعك للضغط على الروابط واستهلاك الأخبار.
هذه الأخبار تحولت في الحملة الانتخابية 2016 إلى ما يشبه كرة الثلج، لأنها مع انتشارها، بدأت وسائل الإعلام الرصينة بمناقشتها ونفيها والتحقيق فيها، وبدأت تشغل الرأي العام، وتحولت لجزء من الخطاب السياسي حينها، وساهم ذلك في زيادة تأثيرها، وبالتالي اتساع الظاهرة تدريجيا.
في 2016، قامت روسيا أيضا وبشكل خاص بتجربة شكل آخر من الأخبار المزيفة، وذلك من خلال خلق عشرات آلاف الحسابات المزيفة على الشبكات الاجتماعية وبث كم هائل من المعلومات والآراء التي تهدف لتوجيه الرأي العام الأميركي في اتجاه معين، دون أن يفهم كثير من الناس ذلك.
أدى نجاح هذه التجربة أيضا إلى تأسيس عدد كبير من الأجهزة الحكومية حول العالم لأنظمة مشابهة للتأثير في الرأي العام. هذه الحسابات كانت في البداية تؤسس يدويا، ثم بدأ مؤخرا استخدام الذكاء الاصطناعي فيها، بحيث تقوم الأنظمة الذكية بكتابة هذا المحتوى، والتفاعل مع الحسابات الأخرى، وخلق حسابات مزيفة تبدو حقيقية، دون الحاجة لجيش بشري كما هو في السابق. هذا الأمر سيتوسع سريعا مع تطور الابتكار في هذا المجال بحيث يمكن للذكاء الاصطناعي خلق مواقع إخبارية وروابط مزيفة ودعمها بشكل ضخم على الشبكات الاجتماعية، مع استهداف ذكي للجمهور المراد التأثير فيه في أي مكان في العالم.
يمكن لأي منا أن يندفع في تخيل ما يعني ذلك على المستوى السياسي والإعلامي والاجتماعي، ولكن مصدر المشكلة الأساسي هو ما أثبتته الدراسات بأن الإنسان يميل لنسيان مصدر المعلومة أو الخبر الذي يصله خلال فترة تتراوح بين ربع ساعة إلى يومين، ومع فقدان مصدر المعلومة، يفقد الإنسان القدرة على تقييم مصداقيتها وصحتها، وقد يتداولها ويتأثر بها دون أن يدري.
أضف لهذا العامل مسألة أخرى وهي عدم قدرة أغلب الجمهور على تقييم المصادر الإعلامية على شبكة الإنترنت، وإيمان كثير منهم بأن كل ما ينشر له نصيب من الصحة، وعدم تخيلهم لوجود فرق ضخمة من الناس على الشبكات الاجتماعية يكتبون ويدافعون عن أي فكرة وينشرون المعلومات المزيفة حسب ما يطلب منهم. هذا ينتشر بالذات، حسب ما تثبته دراسة أخيرة صدرت قبل أشهر، بين الجيل الذين تزيد أعمارهم عن 30 عاما، وذلك غالبا لأنهم عاشوا لفترة طويلة قبل انتشار ظاهرة تزييف الأخبار.
تقوم عملية “تزييف الأخبار” بشكلها الجديد على كتابة عناوين مثيرة، ونشرها على الشبكات الاجتماعية
من غير الممكن أن تتخيل ضخامة المشكلة بدون تذكر عامل آخر مهم جدا، وهو أن الشبكات الاجتماعية تعطيك حاليا أدوات هائلة لتوجيه الأخبار للشخص المهتم بها بالذات عندما تكون هناك ميزانية إعلانية، وهذه كانت مشكلة تم معاقبة فيسبوك عليها من الكونغرس في أبريل الماضي لأنها سمحت للأخبار المزيفة بتحقيق ذلك. الطريف، أن فيسبوك يدفع حصة من دخله الإعلاني للصفحات التي تنشر الأخبار، وكان أكثر 20 موضوع صحفي حقق دخلا ماليا عبر فيسبوك خلال حملة 2016 الانتخابية تابعة لصفحات أخبار مزيفة، وذلك لقدرة هذه الصفحات على كتابة عناوين مثيرة وجذابة جدا للجمهور.
سأكتب الأسبوع القادم عن الحلول المقترحة لعلاج المشكلة، ولكن أيا كانت الحلول فإن المؤكد أن الظاهرة تكبر بسرعة في مختلف دول العالم، وستتحول لعامل هدم حقيقي للصناعة الإعلامية بشكل عام، لأنها باختصار ستقتل مصداقية الإعلام، وما لم يتم معاملتها بجدية على مختلف الأصعدة، سيكون الثمن هو فقدان السلطة الرابعة لدورها.
ربما أيضا تفقد “صاحبة الجلالة” لقبها وتاجها، وتصبح مجرد عازف متشرد على قارعة الطرقات..
إعلامي وكاتب متخصص في شؤون الإعلام الرقمي والمستقبليات، والرئيس التنفيذي لشركة ييس تو ديجيتال ومركز ARC للأبحاث الاستراتيجية. عمل في عدة مناصب إعلامية واستشارية خلال أكثر من 20 سنة.
البوابة العربية للأخبار التقنية صاحبة الجلالة.. ذكية ولكنها مزيفة!
تعبيراتتعبيرات