السبت، 1 يوليو 2017

أثر الفراشة ينقذنا من البؤس!

أثر الفراشة ينقذنا من البؤس!

(1)

(من الصعب كسر عادة التفكير في الأشياء باستخدام مقياسي الحجم والوزن).

يروق للناس الحديث عن خوارق العادة مرتبطة بالحجم والوزن ويألفون الحديث عنها، حتى بين علماء الفيزياء تجد مَن يدرس الكون أكثر من دارسي الذرة، ولكن في هذا المقال الذي ظللت عليه عاكفاً لمدة شهرين نويت أن أتحدث عن الفروقات البسيطة التي لا نراها في حياتنا ونهملها، خاصة في أوقات اليأس، تكون تلك الأشياء البسيطة هي السند الحقيقي لنا في هذه الدنيا!

ذهب أكثر المتحمسين إلى أن القرن العشرين سيُذكر من ثلاثة أشياء، أولها نظرية النسبية تدرس (الكون) والفيزياء الكمومية (تدرس الذرة) والكايوس تتأمل بالتجارب العادية واليومية للبشرية، وما هو ما تركته الفيزياء النظرية طويلاً ثم عادت إليه عبر نظري الكايوس، وعاد إليها جمهور القراء الذي يستمتع بالبحث عن الحكمة فيما وراء الأمور!

دعني أذكرك بماذا أعني ببدايات بسيطة تحدث فروقاً كبيرة، فلتتذكر المرة الأولى التي أمسكت بكتاب وأخذت تقرأ فيه ثم توالت المرات وتمسكت بالقراءة، إلى أن قرأت الكثير إلى أن وصلت لقراءة مقالي هذا الذي أشرف بقراءتك له.

دعني أذكرك بإهمالك طوال السنة في عدم متابعة المذاكرة ووضعك السيئ ليلة الامتحان والملخصات التي لم تنقذك، ولكن تذكر أول يوم أهملت فيه دراستك وبدأ مسلسل الإهمال منذ ذاك الحين، قرأت يوماً أن فعل شيء بسيط في الحياة كل يوم لعمل ما (بنسبة 0.011) لمدة سنة كاملة، المحصلة النهائية تكون تطوراً مذهلاً في الأداء؛ ليصبح 37.8 مرة والعكس صحيح، كل هذا بدايات صغيرة أدت لنتائج مذهلة، ودعني أذكرك بحلمك الآن الذي حققته أو في السبيل إلى تحقيقه كيف بدأ صغيراً بدايات بسيطة جداً غير مؤثرة تراكمت سببت تأثير قليل، ولكنه متصل ومستمر، تلك البدايات (الأسباب الأزلية) أدت إلى نتائج مبهرة سلبية كانت أم إيجابية، انتبه إليها العلماء مؤخراً والبداية كانت لدراسة الطقس، ولكن رجل الشارع كان أسبق في أن يعرفها جيداً، ويعرف أن الشيء البسيط في غاية الأهمية من خلال حياته اليومية، فالفلاح على سبيل المثال يعلم أن البدايات كالبذرة الصغيرة التي يبذرها، وتنتظر المياه، وتهتز وتربو الأرض، ثم تنبت نبتة صغيرة إلى أن تصبح شجرة كبيرة عليها ثمار البذرة، يعلم أن من البذرة الصغيرة حياة، وأن الحياة تحتاج لنمو، والنمو يحتاج إلى وقت، والوقت يحتاج لصبر، البداية بذرة صغيرة جداً، النتيجة مبهرة!

(2)

" إنك لن تري شيئاً ما لم تصل إلى التشبيه الصحيح الذي يجعلك تُدركه" - المؤرخ العلمي مايكل كون.

لذلك مقولة (أثر الفراشة) كانت أفضل نقطة انطلاقة لهذه الثورة العلمية التي عبَّرت عن مجموعة كبيرة من الأحداث العشوائية التي تحدث في الكون نعتقد أنها غير مترابطة، لكن في النهاية عند تجميع الأحداث العشوائية نصل إلى حقيقة أن العشوائيات ترتبط برابط غامض يجعلها غير عشوائية في باطنها، أما ظاهرها فيظهر كأنها أحداث عشوائية؛ حيث إن كمية حركة الهواء البسيطة الناتجة من رفرفة جناح فراشة في الصين مثلاً، لن يكون تأثيرها بسيطاً كما هو متوقع، قد تظل هذه الكمية البسيطة تزحف ببطء، وينضم لها كميات أخرى من الهواء بسبب طبيعة نظام الطقس، حتى تسبب إعصار في إفريقيا، وهذا هو أثر الفراشة.

إن طبيعة نظام الطقس هي التي سببت تضخم حركة هواء جناح الفراشة البسيط في الصين شيئاً فشيئاً مع الوقت، من خلال عوامل أخرى كنسبة الرطوبة، ودرجة الحرارة، واتجاه وسرعة الرياح التي انضمت لحركة هواء جناح الفراشة.


(3)

لعل الأشياء البسيطة.. هي أكثر الأشياء تميزاً
جلال الدين الرومي

كثيراً ما نظرت حولي ووجدت أن الأمور أصبحت مغلقة أمام من يملكون أدوات التغيير الفعلية، فالعالم ليس معهم وفقط بل ضدهم أيضاً طول الخط، فالعالم اليوم استولى عليه التافهون، وأصبح العاقلون لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً، يتركون ما واظبوا على فعله من أعمال إصلاحية صغيرة ظناً منهم أن الأمر يحتاج إلى طوفان كطوفان نوح؛ ليجرف كل هذا الفساد، ولكن إن نظرت في كتاب الله ستجد ذكر الله لأشياء صغيرة، فعل صغير، قول بسيط، شيء صغير قد لا نقيم له وزناً، ولكن الله أخبرنا أن ميزانه ثقيل، وما تسقط من ورقة يعلمها الله، فعل صغير يحدث فوضى جديدة تنهي فوضى قديمة كانت موجودة قبل الفعل، وتؤدي إلى نظام آخر!

اهتمامي بالفيزياء النظرية التي تعبر عن حياتنا اليومية زاد مؤخراً؛ حيث أشعر معها بلذة معرفة الحكمة من وراء الأمور، وإن كنت أجد صعوبة في مداومة القراءة فيها، ولكني عكفت مؤخراً على قراءة كتاب لفت انتباهي عن نظرية الكايوس التي تناقش البدايات البسيطة، فعل بسيط، عمل صغير قد يكون له أكبر الأثر والتغيير، وعكفت لمدة شهرين على فهم تلك النظرية التي هي بمثابة قبس من نور، خاصة في وقتنا الحالي، معتمداً إلى حد بعيد على كتاب (نظرية الفوضى، علم اللامتوقع) لجايمس غليك، وقصيدة محمود درويش التي ابتعدت عن الفيزياء، ولكن تحدثت عن الكلمة وأثرها!

(4)

أثر الفراشة ممتد في السياسة تتجلى في حدث تحطم جدار برلين؛ حيث مُنح جونتر شابوفسكى، المتحدث باسم اللجنة المركزية للحزب، ورقة التعديلات لإعلانها أمام الصحفيين وشاشات التلفزيون، كان منهكاً ومتعباً وغير مكترث إلا بالانتهاء من مهمته على عجل، فأعلن بطريقة تشوبها الفوضوية والارتجالية أن النظام الحاكم قرر منح مواطني ألمانيا الشرقية تأشيرات سفر أو هجرة إلى الخارج من دون شرط مسبق.

هنا كان السؤال التلقائي، من جانب أحد الصحفيين: متى يبدأ سريان القرار؟ ارتبك جونتر، لم يكن لديه أي إجابة، اعترف فيما بعد عقب طرده من الحزب جراء تحميله خطأ إسقاط ألمانيا الشرقية، أنه أراد تقديم أي إجابة لإنقاذ الدولة، فقال: "فوراً".

مَن يتابعون الحدث أمام شاشات التلفزيون، ترجموا (فوراً) بأن جدار برلين سقط، تدفقت الجماهير في لمح البصر من شطري برلين لهدم السور.

كلمة غير مقصودة (فوراً) حطمت السور، بتلك البساطة التي قرأت بها ما الذي حدث.

(5)

"أثر الفراشة في الدين يدخل الجنة، فالقليل له أثر عظيم".

فعل صغير أثره يمتد أن يكون سبباً لدخولك الجنة، جاء في صحيح مسلم: مثقال ذرة، ولا تحقرن من المعروف شيئاً، وفي قوله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة"، وفي الصحيحين: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، فدل على أن القليل له أثر، قَالَ النبي: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فليغرسها"، قامت الساعة، الجبال تنسف، والأرض تتبدل، والسماء تتبدل، والنبي يخبرك أن لو في لو يدك فسيلة فاغرسها في الأرض ولا تتأخر، ما العائد من وراء هذا الفعل؟ أمر مدهش!

وأخيراً وليس آخراً: فالكون المطلق بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، فإن فاتنا اللامتناهي في الكبر، فلا يفوتنا اللامتناهي في الصغر!




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/osama-saudi/-_12240_b_17308360.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات