الاثنين، 18 سبتمبر 2017

الثقافة الشعبية والاستعمار الثقافي

الثقافة الشعبية والاستعمار الثقافي

مَن منا لا يتذكر الصول "عبدالعال.. عَبعال" في المسرحية الرائعة "ريا وسكينة" للمخرج الكبير حسين كمال، التي قد تُعبر عن رؤية فنية لتجسيد نوع من "الوعي المزدوج"، الذي قد يجعل المرء/المشاهد يمسك بخيوط الحبكة الدرامية لهذه المسرحية، ومدى ملاءمتها لواقعية الأنا في مواجهة إشكالية الفهم لدى الذات والآخر في آن واحد، والتي من الممكن أن تقدم رؤية أخرى قد يتلقاها الجمهور العربي عن تأثيرات ذلك الوعي عند إيجاد مقاربات لقضايا جوهرية تستند عليها تلك الشخصية "الصول عبدالعال"، وتمس حياة الإنسان في تعامله اليومي مع وسائل الإعلام؟!

وبذلك يُمكن أن نوجد مساحة للفهم حول أبعاد تلك الشخصية بعيداً عن التنميط أو ادعاء اكتمال المعرفة، والتي من المحتمل أن تقدم لنا فرصة للتعرّف على طبيعة جماهير وسائل الإعلام ومدى تأثيرها بهذه الوسائل الإعلامية، ومنها ما يتعلق بالفنون والأفكار المعنية بالثقافة / الفنون الشعبية.

وكان ت.و.أدورنو T.W.Adorno يعتبر أن "الثقافة الشعبية لم تعد تقتصر على أشكال معينة مثل الروايات أو موسيقى الرقص، لكنها قد هيمنت على جميع أشكال التعبير الفني لوسائل الإعلام".

وبالنسبة لأدورنو، تبدو وسائل الإعلام قوية تماماً. وهو يصف الثقافة الجماهيرية الحديثة بأنها متكررة، ومملّة، وموجودة في كل مكان وزمان، ويقترح أن هذه الجوانب من الثقافة الجماهيرية الحديثة "تميل إلى أن تؤدي إلى ردود فعل تلقائية وإلى أضعاف قوة المقاومة الفردية"، ويضيف، في نهاية المطاف، أن الناس لا يخسرون قدرتهم على رؤية الواقع كما هو فقط، ولكن يفقدون قدرتهم على تجربة الحياة.

ومن هذا المنطلق، كيف يُمكن لشخصية درامية مثل "الصول عبدالعال" أن تُولد تلقائياً الثقافة الجماهيرية من خلال الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام، وكيف لها أن تجيب على تساؤلات عديدة عبر رسائل (ضمنية) أو (ظاهرة)، والتي قد تتمحور حولها "الخطابات الثقافية" في المرحلة الراهنة، وهذه الرسائل تُولد ردوداً على درجة أكثر أو أقل من التلقائية والفورية.

ومن تلك التساؤلات، لماذا في الخطابات الثقافيّة التي تعمل على أن تكون مناهضة بشكلٍ أعمّ لكلّ السّلطويّات دائماً ما يكون ثمّة ثنائيّة بين المثقف والأمّة، وبين الأمّة والدّولة؟ أي، بصورة أكثر تحديداً، لماذا "الأمّة"، في كثيرٍ من الأحيان، هي المنتصرة، بينما آخَرها، سواء أكان دولةً أو مثقّفاً، هو الخائن لها والمتآمر عليها؟ طبعاً، في هذا السياق، لا أفترضُ دفاعاً عن المثقف ضدّ الأمّة، أو عن الدّولة ضدّها بتاتاً.

كلّ ما أودّ الإلفْات إليه هو عملية تسكين الأمّة في موضع جاهز وفي قوالب نمطيّة ساكنة باعتبار أنّ الأمّة شيء نهائيّ وناجز، وهناك فئة مثقّفين لا "يمثّلونها"، أو دولة سرقت دورها التاريخيّ.

ما أثارَ بذهني هذا التساؤل حقيقةً هو كتابة الأقلام الإسلاميّة - الحداثيّة التي تحاول أن تدافع عن كيان تاريخيّ كبير اسمه "أمّة إسلاميّة" وتعمل على إعادة الفاعليّة له تجاه الدّولة التي، بزعمهم، صارت ضدّ الأمّة.

ولذلك، أكثر ما يَستوقف المرء في الكتابات الإسلاميّة - الحداثيّة هو التركيز على موضوع الأمّة باعتبارها كياناً متجانساً حتى وإن احتوى كيانات أخرى بداخله يستقطبها إليه، ما سماه سابقاً منى أبو الفضل بـ"الأمّة القطب" لا "الأمّة المركز"، بحيث إنّ الأولى تستقطبُ أعراقاً وأجناساً وكياناتٍ إليها، والثاني محوريّة مُمركَزة تنصّب نفسها المكانة العليا.

وكما نعلمُ جميعاً، فإنّ ما نسمّيه "الأمّة الإسلاميّة" هو كيان فِضفاض، ويمكن أن يُستخدم في إطارات طائفيّة، باعتبار أنّها تمثّل السّنة -التي خرجَ علينا مثقفون مؤخراً يقولون إنّ السّنة ليسوا طائفة- أو أنّها تمثّل الشيعة -التي زعمَ منظّرون لها تاريخياً أنّ الولاية لهم- في حين أنّ هذه التنظيرات كلّها محكومة بتصوّرات حديثة عن الشأن العموميّ التي يظنّ منظّرو "الأمّة" المستميتون في الدّفاع عنها أنّهم يعارضونها.

فثنائيّة الأمّة والدّولة، بلا ريب، هي صنيعة ميتافيزيقا سياسيّة حديثة نشأت مع الدّولة الحديثة، وتبلورت أكثر مع الدّولة - الأمّة التي هي، باختصار شديد، الدّولة التي تمثّل "الأمّة" سياسياً.

ولا أريدُ أن أخوضَ نقاشاً متعلّقاً بطبيعة الأمّة في السّابق أو بطبيعة الدّولة (إذ إنّ تنظيراتنا حول ذلك إمّا محكومة سلفاً بمعياريّة حداثيّة لإثبات "استبداديّة" الدّول في التراث الإسلاميّ، أو محكومة بدفاع عن طبيعة هذه الدّول -إن صحّت تسميتها بـ"دولةٍ"- في هذا التراث ضدّ الدّول الحديثة السّلطويّة).

أيضاً، لقد تغيّرت الأمّة حديثاً ليس فحسب بفعل الكولونياليّة الغربيّة في المنطقة التي أتاحت مجالاً جديداً للعلاقات البين دينيّة بين الطوائف منذ تدخّلها لـ"إنقاذ المسيحيين" في الإمبراطوريّة العثمانيّة، ثمّ تدخّلها اللاحق في سوريّا ولبنان ومصر، وإنّما أيضاً بفعل طبيعة الاجتماع السياسيّ الحديث وإجراءات الدّولة - الأمّة في المشرق بعد الاستقلال، ودخول ثنائيّة "أكثريّة" و"أقليّة"- بحيث إنّ الأكثريّة تعبّر عن "الأمّة"، وذلك سياسياً، ودستورياً، والأقليّة تعبّر عن جماعات دينيّة أو ثقافيّة أو لغويّة ضمن حيّز الدّولة - الأمّة التي تعاملهم باعتبارهم أقليّة عدديّة حتى وإنْ أعطتهم استقلاليّة على مؤسّساتهم المِليّة أو على قوانين الأسرة الخاصّة بهم.

فالأمّة، حداثياً وفي ضوء الدّولة الحديثة، هي الكيان العدديّ الأكبر والثقافيّ والدينيّ واللغويّ الذي تمثّله الدّولة، بينما الأقليّة غير ذلك.

ولذلك كانت خطّة الدّولة - الأمّة دائماً تجاه الأقليّات إمّا أن تطالبهم بالدمج في "الأمّة" -الأكثريّة- ومن ثمّ تفقدُ الأقليّة ما يميّزها لغوياً ودينياً وثقافياً، أو أن يكونوا أقليّة ويُعاملوا على هذا الأساس.

والآن، مَن يدافعون عن "الأمّة الإسلاميّة"، هل يدافعون عن الأكثريّة في واقع الأمر، أم عن كيان تاريخيّ يمثّل قيماً كبرى مسمّى بهذا الاسم؟ وإذا استخدمنا خطاباً أمّتياً ذا نوستالجيا معيّنة تجاه هذا الكيان، ألا يَفترضُ ذلك إغفالاً للشّرط التاريخيّ - الاجتماعيّ الذي نحيا بفعل أيّ كان؟

وبعد ذلك النقاش، هل نحن بحاجة إلى إيجاد الطريقة أو الوسيلة أو الأداة المناسبة للإجابة على مثل هذه التساؤلات الجدلية أم وفقا لأدورنو، ولعدد آخر من منظري الثقافة الجماهيرية فإن الثقافة الشعبية تقصي ثقافة النخبة، وحالما يصبح الناس أكثر فأكثر تعرضاً للثقافة الشعبية، فإنهم يفقدون اهتمامهم بفنون النخبة ويفقدون قدرتهم على التمتع بها، قد يبدو هذا مقبولاً من الناحية النظرية، ولكن من الناحية العملية لا يبدو أنه منطقي كثيراً.

وهكذا تبدو المقاربة الثقافية بين التساؤلات الجدلية حول مفاهيم المثقف، الأمة، الدولة، الأقلية..إلخ، والثقافة الجماهيرية ومدى تأثيرها في المسائل الأخرى مثل العرق أو الدين أو السن أو الإثنية أو الجنس، أو التعليم، أو القيم، أو الشخصية، ومجموعة من المتغيرات الأخرى، والتي قد تبدو فيها وسائل الإعلام قد تؤثر في قراراتنا إزاء الأفكار/المواقف التي نشاهدها أو سوف نشاهدها أو نستمع إليها وتؤثر في الطريقة التي بها نستجيب للنصوص التي تحملها وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي أو المدونات، ومن هنا، يُمكن أن يكون هناك سبب وجيه للقول إن التأثيرات ليست عامة، وإن الجميع لا يتأثرون بالطريقة نفسها.. حيث يُمكن لها أن تقدم لنا بعض الأجوبة المثيرة للجدل، وخصوصاً حول الثقافة الشعبية والاستعمار الثقافي.

* للتأمل:
• "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً.
أما الآن، فإنّ لهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء" أمبرتو إيكو.
• بعد 26عاماً.. لماذا يُطالب البعض بسحب "جائزة نوبل للسلام" من رئيسة وزراء ميانمار (بورما) "أونغ سان سو تشي" الحاصلة عليها في عام 1991م.







ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/walid-almatari/story_b_17971128.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات