السبت، 11 نوفمبر 2017

كَذبَ الناس ولو صدقوا!

كَذبَ الناس ولو صدقوا!

بعد مرور بضعة أسابيع مع زميلتي الجديدة في السكن، أعجبت بها، وببساطتها في اللباس؛ جلالبيب طويلة وواسعة لا تظهر شيئاً من زينتها أو تضاريس جسمها، كيف ذلك وهي لا تُظهر سوى عينيها؟ يفوح من مظهرها الوقار والحياء، وإن دل على شيء فسيكون حول إيمانها السليم، هكذا استطاع خيالي لملمة أفكاري عنها، خاصة بعد رؤيتها تواظب على تلاوة القرآن الكريم وتكثر الاستغفار وكأنه جملتها المفضلة.

بدأت علاقتنا تتوطد وبدأ الحديث يطول بيننا، لتصبح لدي صديقة منتقبة، وأصبح النقاب يزول من على شخصيتها لتتضح لي أكثر وأكثر. فعند المساء، كلما فرغنا من الأكل كانت تبدأ معي أحاديث مطولة عن كل أولئك الفتيات اللاتي تكرههن، بدا كأنها تكره الجميع؛ بل تكره كل فتاة لا ترتدي النقاب! فيما جعلني أتأكد من كرهها لي فيما بعد.

لم يختلف الأمر كثيراً عند تلك السيدة العجوز العصرية والمرتبة بشعر قصير ولون فاقع، ليس له إلا أن يعكس مدى هوسها بالموضة. بينما كنا ننتظر دورنا بإحدى المؤسسات الإدارية، دخلت سيدة منتقبة بلباس أسود، فكان منها أن بادرتني بجملتها: "لا أعرف ما بال هؤلاء السيدات يرتدين أثواباً طويلة لا تمت إلى الموضة بصلة! يَدْفِنَّ كل جمالهن بهذا الغباء، فالله جميل يحب الجمال، أين الجمال في الحجاب؟! ولا أرى فائدة من تسمية المرأة بالأنثى إن لم يكن جمالها فوَّاح أمام الملأ بدل غراب نكرة بعباءة وقفازين!".

للأسف، لم أستطع قط أن أنطق بكلمة، فوجهي غدا متخشِّبا، صرت أنا العجوز المصابة بشلل رباعي، كل ما فعلت هو أن عدلت برقعي الأسود وانسحبت بكل بساطة حارقة.

المشكل الحقيقي ليس في الشعر المصفوف ولا العباءة ولا اللحية ولا الجينز الممزق، كل المشكل هو أننا ما زلنا كائنات هلامية أمام السؤال الأهم: من نحن؟ وماذا نريد؟ شتاتنا يدفعنا لمجاراة رحلة الهروب من إيجاد الجواب، لم نعرف يوماً أنفسنا، فهربنا منها وخرجنا ساديين، ممتلئين بالخواء نبحث عن الاختباء في أقرب مجموعة أو تحزّب. فكيف لنا أن نتحدث عن الانتماء كمسؤولية وقرارات، في حين أغلبنا يحوّل كل مبادئه لقناعات يمكن تجاوزها أمام رغبته الجامحة؟!

لم نعرف ما الذي نريده منذ البداية، وما زلنا في حال تضافر معه الضباب فصنع لنا صورة من بعثرتنا الداخلية ومن ضعفنا، وترك لنا مهمة تزيينها وتزييفها بكل إبداعية.

هو شتات قد همَّ بحضارتنا قبل ديننا، فلن أبالغ إن قلت حتى المولود حديثاً أصبح حائراً من أمره. وماذا عساه إن وُلد في حرب الأفكار المتطرفة؟ حرب لا تستثني أحداً، ويا ويحك إن كنت ضعيف الفكر والمعتقد وسط رياحها الساحقة! أصبح لكل منا فكرة ولكل منا معتقد، ولكل منا ديانة هي بالأحرى لكل منا وهم يعيشه في سلام بعيداً عن أي تصادم، مع حالة من حالات الوعي بتفادي كل دهاليز الشك والبحث عن اليقين. فكيف ذلك إن كان وهماً قد نُسج من وحي الممكن عامة والمرغوب خاصة، بأدنى التفاصيل؟!

غدت الحقيقة صعبة كما غدونا مغتربين عنها. لكن، أليس الرجوع إلى الأصل أصل؟ وللأسف، حتى نقطة الأصل جرفتها أوهامنا، هي أوهام أصبحنا نعتني بها ونزيّنها لأنفسنا، حتى إننا نجددها كلما تهالكت ونجعلها مسايرة للموضة الزمنية. فنحن لا نريد أي اصطدام مع ذلك الواقع المرعب ولا الحقيقة المُرة. أصبح كل ما نريد هو أن نعيش وفقط (حتى لو كان على حساب إنسانيتنا)!


قد يسعني أن أصف الوضع بحفلة هالوين، تقام كل يوم، كل صباح، كل فينة. فعليك أن تكون مستعداً لأي لقاء مع إنسان آخر، وتتأكد من أنك قد اعتمرت قناعك بعد استيقاظك مباشرة. ولعل علم النفس المستقبلي سيتجه في سيكولوجية: كيف تعتمر قناعاً يناسبك؟

ميّتون على قيد الحياة نحن؛ إذ أصبحنا نخاف العقاب الاجتماعي أكثر من الديني. نفكر في تبرير للخطأ قبل ارتكابه. فقط لنرتكبه بهدوء؛ حتى لا نترك للضمير أي فرصة إعلان عن نفسه. فذلك الملتحي فور خروجه من بوابة المسجد يرتدي قناع النفاق، وتلك المتبرجة تحرص دائماً على موازاة كل تكتيكيات الموضة؛ لكي تُعنى بالكلمات المعسولة من معجبيها، تحرص على جمالية تفاصيل صورها الإنستغرامية كما لو أنها سيرتها الذاتية، تماماً كما يحرص ذلك الملتحي على رائحة المسك الفوّاحة من ملابسه.

أرتال الزيف تغطينا، وأصبح من الصعب نفصلها من على أرواحنا، حتى الآن لم ننجح سوى في الادعاء. فكل تلك الحيوات وكل تلك الستايلات وكل تلك الانتماءات التي ابتكرناها ما زالت غير قادرة على الاقتراب من نقطة الوصول، الادعاء بالحرية والاصطفاء والسلام. عن أي سلام نتكلم، ونحن نخاف الاختلاف؟! أي سلام ذاك الذي سيحل في مجتمع لا طعم فيه للحقيقة؟!

لطالما اعتنت الفلسفة الغيرية بمفهوم "الآخر" تارة بتحديده بالسلب؛ لكونه غير الأنا؛ إذ إنه مستقل وجودياً؛ جسمياً ونفسياً عن الأنا. وباتخاذه غريباً هنا، يتحدد الموقف من الآخر في اللامبالاة. أما إن اعتُبر خصماً فسيتحول الموقف للمواجهة والمنافسة. وفيما يخص المنحى الإيجابي باعتبار الآخر أخاً للأنا، فهنا حتماً ستعم أجواء المساندة والتعاون والمحبة والسلمية.

لن يسعني حقاً أن أرجّح أحد المواقف؛ لكون طبيعة الآخر هي من تجعلك تحدد المنحى المناسب ليس أكثر. ولعل ما جعل كلامي صحيحاً هو حفلة الهالوين تلك التي أصبحنا بصددها.

تنكُّر أفقدنا المعاني بحسها الجمالي في إمكانية التوافق بين الذات النفسية والخارج من الطبيعة والغير. ولعل أعظم صور الحس الجمالي في الوجود، التصالح مع الذات والآخر. لتتصالح كل المعاني المختمرة في النفس فتخرج بكل إيجابية، ولينتصر رقيق الورد على الشوك!

يحكى أن رجلاً عجوزاً، كان يعيش وحيداً، لا يكاد يقضي يومه جالساً على كرسي أمام بيته، ساعات طويلة يقضيها في وضعيته المعتادة، حتى إنه صار من معالم القرية. لا أحد من السكان يعرف عنه شيئاً، يُخيَّل للرائي أنه خارج لتوه من كهف مهجور، لكنه كان دائماً هائماً متفحصاً للوجوه، غير عابئ بنظراتهم المشمئزة لوضعه، يتابع الناس أمامه وهم يمارسون الحياة بدأب.

ولهذا، كان من المشاع عليه أنه مصاب باكتئاب. لكنه يومها قرر أن يشارك بدوره في الحياة؛ ارتدى ثياباً مرتبة ومشَّط لحيته؛ ومن ثم خرج للقرية وأخذ يلقي التحية على كل من يصادفه، ولم تختفِ الابتسامة من على محياه. بدورهم، سكان القرية شجعوه، حتى إن هناك من عانقه وبادله القُبلات بكل حرارة وبأجمل العبارات.

انفطر قلبه وأُعجب بتعامل الناس تجاهه، وأصبح يفكر في أن يخرج من عزلته التي دخلها منذ موت زوجته. ولكن ما إن أدار ظهره ليفتح باب منزله، حتى أصبحت الإشاعة في القرية أنه مصاب بانفصام في الشخصية!

فعلى الرغم من أنهم لا يعرفون شيئاً عنه، اختاروا الافتراء وراءه والابتسامة في وجهه، وعلى الرغم من أنه كان يعيش في سلام وحيداً فإنه لم يقدر أن يساير عزلته: هكذا أصبح حالنا، نتقافز بين رغمين أحلاهما مُر!




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/khaoula-taoussi/story_b_18464694.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات