"1"
خنع وقنع بالذل، ورضِيَ وارتضى بالمهانة، وسكت عندما سكت الجميع، وذلك كُله من أجل "لقمة العيش"، فيا لحسرة من ظل طوال عمره ثائراً على كل خطأ، شُجاعاً ضد كُل ظلم ثم لا يلبث أن يضع حذاءً من المهانة في فمهِ حتى لا يتعرض للفصل (التسري ح) من العمل، هكذا هو حالهُ اليوم.. هشاً لا يقوى على شيء، دجاجة ساكنة فلا هي تُحاول أن تطير كبقية الطيور من أقرانها، ولا هي قادرة حتى على المشي، تأكل مكانها وهي معتقدة -وهماً- أنها بعيدة عن الذبح؛ لأنها مُسالمة، ولكن لا تُدرك الحقيقة إلا والسكينُ على رقبتها في وقتٍ لا ينفعُ فيه ندم.
كان حاضراً في تلك الواقعة، شاهدها الوحيد، يحاول أن يتكتم على ذلك ولا يفصح لأحد من زملائه في العمل عن شيء، بل لم يردد ذلك حتى بينه وبين نفسه، يهربُ دائماً بأي حجة عندما توجه له الأسئلة، فجميع زملائه في المكتب يعلمون جيداً أنه آخر مَن خرج، هو اعتاد على ذلك أن يكون آخر موظف يخرج من الشركة وأول موظف يأتي لعل تلك العادة تشفع له لدى المُدير العالم، هو حتى لا يقوم بذلك من أجل "علاوة" ولا حافز، بل يتطوع بذلك فقط ابتغاء مرضاة المدير، فأذنه تعودت كل صباح أن تسمع إطراء المُدير العالم وهو واقف - مُنتظراً - على باب مكتبه: "إزيك يا حسين أفندي، يا ريت كُل الموظفين في نشاطك ده".
تلك الجُملة الساحرة التي جعلت من حسين أفندي "الكُل في الكُل" فالجميع يتوسط لدى حسين، والجميع يتملق حسين بصفته "المُقرب" للمدير، والجميع أيضاً يحتقر حسين -بداخله- بل حسين نفسه يحتقر حسين أفندي الموظف "المُنافق" هكذا يصف نفسه -جلداً- عندما يُحاورها، من صفات حسين "الحميدة" أنه صريح مع نفسه؛ لذلك لا يجد حسين حرجاً في أن يطلب "رشوة" ويقولها هكذا: "البلد دي مفيش مصلحة بتمشي فيها إلا بالرشوة، عشان كده أبجّني تجدني، وشخلل عشان تعدي، ومفيش حاجه ببلاش".
في ذلك اليوم اتصلت به زوجته تطلب "اتنين كيلو لحمة"؛ لأن عريس ابنته سيأتي اليوم للعشاء، "هو عريس الغفلة دي ما بيجيش غير عشان الأكل؟ اللي ما دخل علينا بكيلو موز حتى"، هكذا رد عليها بصوتٍ أجش، ثم أخبرها أنه سيتأخر قليلاً؛ لأن سيادة المُدير سيتأخر.
"2"
لم تتوقع أن يتم قبولها -بسهولة- هكذا في تلك الوظيفة، فهي خريجة حديثة "بالكرتونة" لو أردت أن تصف حالها "العملي" وخبراتها الوظيفية، درست التجارة - إدارة الأعمال، وتفوقت، فتقديرها جيد جداً وتحمل من الحماسة ما يدفعها فعلاً للنجاح.
لم تكن تلك الحماسة وليدة الصدفة، بل بفضل تشجيع أمها المتكرر لها: "عايزاكي يا بنتي ناجحة في حياتك، لازم تنجحي وتشتغلي عشان تساعدي أمك، من بعد ما المرحوم باباكي مات وأنا ماليش غيرك، وأنا تعبت يا حبيبتي من الخدمة في البيوت" هذا الحال الذي يُحيط بها لم يدفعها أبداً لليأس، بل على العكس تماماً كانت صامدة، قوية، تعرف وجهتها وتمتلك طموحاً يناطح السحاب.
أخبرها المُدير العام أنها في فترة تدريب لمدة شهر، وأنها ربما تتأخر بعد ساعات العمل المعتادة؛ لأنها في حاجة إلى مزيد من التدريب حتى يتم قبولها بسهولة؛ لأن هناك من يأتي ولا يستمر لعدم خبرته وكفاءته، ثلاثة أيام هي عمرها الوظيفي في هذه الشركة، وجدت فيها ضالتها التي ستنقذها وأمها من غياهب "الفقر"، طلب منها المدير أن تنتظر؛ لأن هناك ملفاً مهماً يريد أن يتناقش فيه معها بعد العمل، وأن هذا الملف ربما سيساعدها على "التثبيت" في وظيفتها بكُل سهولة؛ لأنه سيقوم برفع "تقرير" عن مدى كفاءتها في العمل، وأنها تصلح لهذه الوظيفة، فوافقت وأخبرت أمها أنها ستتأخر قليلاً في الشركة، وطلبت منها أن تتناول هي "الغداء" ولا تنتظرها وألا تنسى "دواء" القلب.
"3"
المُدير العام، يتدلى "كرشه" كامرأة في شهرها التاسع، مثيراً للاشمئزاز صوته "غليظ" فاشل، هو يعلم ذلك فجميع شهاداته جاءت عن طريق الرشاوى والمحسوبيات، يتذكر جيداً عندما كان في سنة "خامسة" ابتدائي عندما بدأت عليه بوادر الفشل، لم يستطع أن يُخبر أباه بأنه رسب في كل المواد إلا أن أباه قد عرف من مُدير المدرسة، هي مدرسة خاصة لا يدخلها إلا "أولاد الملايين" كان رده على مُدير المدرسة حينها قاسياً: "أنا جايب ابني هنا عشان يسقط؟ أنا بدفع ألوفات ليكم كُل شهر عشان تقول لي الكلام الفارغ ده؟ أنا من بكرة هاخده أوديه مدرسة تانية"، لم يفهم الطفل حينها شيئاً عندما وجد اسمه في قائمة "أوائل المدرسة" مع شهادة تقدير لتفوقه، هو الآن يعرف جيداً كيف جاءت شهادة التقدير.
اعتاد أن يشتري كُل شيء، وأن يُساوم أي شخص مقابل المال، وأن يضع المبادئ والأخلاق والمُثل العليا تحت حذاء الثروة والسُّلطة، فلم تفلت منه موظفة إما تحرشاً أو ابتزازاً، وتسقط الكثيرات تحت وطأة العوز والحاجة أمام أمواله وإغراءاته المتكررة أو تترك وظيفتها باحثة عن "مُدير" جديد ربما يحمل نفس صفات هذا المُدير الشره النتن، وهكذا دواليك.
"4"
لم تفهم - حقيقة - طبيعة تلك النظرات المُتكررة منه إلى جسدها، ربما هي مخطئة، فلم تتوقع منه شيئاً سيئاً؛ لأنه "قد باباها" هكذا كانت تُردد إلى نفسها، حتى حاول - ذات مرة - أن يُمسك بيدها - بطريقة باتت بشكل عفوي - لكنه المُكر ذاته، ارتبكت ورجعت للوراء وسرعان ما بادر بالاعتذار ليخبرها أنه "مش قصده"، اطمئنت قليلاً أو هكذا أظهرت له والموضوع "عدّى"، لكنه ترك شيئاً في قلبها نحوه، وعزمت مع نفسها أن "تاخد بالها" فيما بعد وستكون أكثر حرصاً.
لذلك عندما طلب منها المكوث لبعد العمل لم يقنعها طلبه، ألا ينتظر الملف للغد حتى نناقشه؟ ولماذا أنا فقط التي ستناقش معه الملف؟ ولكن رغبتها في تثبيت نفسها في الوظيفة وتحقيق حلم والدتها أسكنها قليلاً، فلا تريد أن تضيع تلك الفرصة بسبب مخاوف تتردد في رأسها، "هيحصل إيه يعني؟" هكذا ردّت في عقلها.
"5"
يُحاول أن يتأكد من خُلو الشركة تماماً من الموظفين، وبالفعل خرجوا ما عدا حسين أفندي، "انت هنا يا حسين؟ قاعد لحد دلوقت بتعمل إيه؟ مش هتروح؟"؛ ليرد حسين: "لتكون حضرتك محتاج حاجة كده ولا كده يا فندم؟"، "لا أنا هعمل اجتماع مع الموظفة الجديدة وهمشي، تقدر تروّح انت"، تركه وذهب إلى مكتبه حيث تجلس منتظرة.
لم يكن من طبيعة "حسين" أنه يقتنع بسهولة؛ لذلك ظن "بعقله الخبيث" أن هناك أمراً مجهولاً أراد أن يعرفه؛ لذلك لم يخرج كما طلب منه المُدير، بل ظل في مكتبه وأطفأ النور حتى لا يعتقد أحد بوجوده، وبدأ يتنصت على مكتب المُدير لعله يحظى ببعض ما يجهل.
"6"
كان قد عقد النية على الفتك ببراءتها، "تشربي حاجه؟" هكذا سألها قبل أن يتلقى منها الإجابة "ميرسي، هو حضرتك هنناقش إيه؟ عشان بس إنت عارف إني الوقت متأخر برضو وأنا سايبة ماما لوحدها"، قام من على كرسيه بشيء من البلاهة، بات واقفاً فوق رأسها كُمحقق جنائي يطلب منها "اعترافات"، وكأنه يريد أن يسمع منها أنها واقعة في غرامه تريد أن تمنحه جسدها حتى من دون أن يطلب، فأمثاله يتكبرون حتى على الطلب، فالجميع يجب أن ينصاع له بإرادتهم الكاملة وهم فرحون بذلك، هوى السلطة والنفوذ يُرهب به أصحاب النفوس الضعيفة أينما حل.
قررت أن تتمالك نفسها وألا تُبدي له أي خوف، وقرر هو الآخر أن يتمادى في سماجته، بدأ يتفحص جسدها بعينيه وكأنه يبحث فيه عن سبيل لغايته الدنيئة، لاحظت نظراته المُتكررة فبدت مُرتبكة ووجد أنه الوقت المُناسب للانقضاض، "تعرفي إن أنا أقدر أثبتك بجرّة قلم واحدة"، "يا ريت يا فندم والله أنا ربنا عالم محتاجة للشغل ده قد إيه، وكمان أنا ممكن أتدرب وأشتغل وأجتهد وهكون قد المسؤولية بإذن الله".
ضحك حتى بدت نواجزه، ثم أشعل سيجاراً ليتحول المكتب إلى "مدخنة" لم يكن الدُخان - في حقيقة الأمرِ - كثيفاً ولكن هي تراه كذلك، كادت تختنق من هذا الدخان الغريب الكريه إلى قلبها، لم يكن دُخاناً عادياً بل تتكون جزيئاته من مُكر وخُبث، ويضاهي لونه سواد غاية صاحبه، وبدا واضحاً جداً معها: "هو طريق واحد يخليكي تتثبتي في الوظيفة دي، طريقة الأوضة دي" أشار بيده نحو غرفة داخلية بجوارها حمام مكانها داخل مكتب المدير، كانت فكرة مهندس المصلحة، أن يكون بداخل مكتب المدير العام حمام وغرفة صغيرة كي يستريح فيها من عناء التعب - لم يخطر بباله ذات مرة أن تكون هذه الغُرفة وكراً للسيد المدير - وكانت الصاعقة.
انتفضت وكأنها تجسيد للغضب، "اخرس يا حيوان"، قالتها بعد أن التقطت حقيبتها مُتجهة نحو الباب، غضب فخوف ثم ضعف ويأس، هكذا لعب بها الحال لتجد المُحال، يأبى الباب أن ينفتح، فلقد أغلقه الوغد بعد أن تأكد من رحيل الجميع، لكنه نسي أن "حسين أفندي" لم يخرج ولم يذهب إلى أي مكان، بل سمع كُل الحديث الذي دار بينهما وعرف أنها صيدته الجديدة وجلس في مكتبه "قواداً" سادياً يستلذ بالذي حدث.
"أنا زي بنتك"، جملة رددتها وهي تبكي من الخوف والهلع، يقترب منها بهمجية، ينتزع عنها براءتها وكبرياءها ليتحسس بيده البذيئة ملامح أنوثتها -غصباً وقهراً- لتحاول أن تبعده بكل ما تحمل من قوة وإرادة، جملة سمعها "حسين أفندي" بوقعٍ مختلف، سُبحان من ذكرهُ بابنته، تلك التي سيحضر عريسها اليوم، فشعر لوهلة بانكسار، ربما تخيل ابنته ذات العشرين عاماً مكان هذه الفتاة، ربما فكّر في أن يذهب ليزيح عنها أو عن ابنته التي تذكرها فجأة، ولكن هيهات.
كانت قد أرهقتها المقاومة وهزها الضعفُ واليأس وجعل منها الخوف جثة هامدة، ربما ما أفقدها الوعي هو يقينها بأنه لا مفر، ملابس مُمزقة، وشعر منكوش، ووجه بدا شاحباً من أثر الاغتصاب، نعم.
جلس شرهاً مُنتشياً على الأرض، هكذا اعتاد أن يجلس بعد الفتك بضحاياه، لا يبدو عليه أنه يشعُر بالذنب، فكيف يشعر بالذنب من لا يتوقع العقاب؟ هذه الفتاة لن تُبلغ الشرطة ولن تخبر أحداً كسابقاتها، وحتى إن أخبرت مَن ستخبر؟ أمها المسكينة؟ لن يجدي ذلك معه نفعاً، فحتى لو ذهبت للشرطة فلن يُصدقها أحد، أين الشهود؟
"7"
أخذ يجري بعيداً - حتى لا يراه المدير - أو ربما هرباً من نفسه أو ضميره الذي نعاه منذ زمن، تذكر عند بداية شبابه وعهدهِ بالعمل، كيف وقف رجلاً أمام محاولة رشوة كان قد قدمها له أحد رجال الأعمال من أجل "تمشية مصلحة"، لكنه رفضها بكل صدق وحماس، ثم أسرع لُيبلغ مديره في العمل بما حدث، ليرد عليه بمكر: "انت حمار، رشوة إيه يا ابني، دي هدية، هو انت ما تعرفش الإيتيكيت ولّا إيه؟ كانت هذه هي البداية، أو بداية نهايته إذا أردت الدقة.
حتى سلك طريق الرشاوى والمُحسوبيات بل وأتقنه وأجاده، ولكن لا يخلو الأمر من "شوية" ضمير من حين لآخر، فالإنسان - بكل تأكيد - يحمل بين طياته الخير والشر، الصواب والخطأ، والجميل والقبيح، لكن مثل "حسين أفندي" وأمثاله يغلب عليهم دائماً الشر والخطأ والقُبح.
عزم على الصمت، فهو لم يتأخر في المكتب ولم يرَ شيئاً، فالمدير بنفسه طلب منه الذهاب وبالفعل ذهب ليشتري "اللحمة" التي طلبتها زوجته وتأخر هناك؛ لأن "الجزار" كان يريد أن يعطيه لحمة "ضاني"، ولكنه لا يُحبها، فالجميع يعلم ذلك حتى أنتم.
"8"
لملمت بعض ما فقدت عندما فتّحت عينيها، أخذت في البكاء لكنها لم تجد أحداً، حتى الأوراق التي على الأرض والكرسي الذي قد وقع عندما قاومته، لا يوجد شيء، مكتب منظم ومرتب، لا مكان لذلك المُدير المُجرم، ولا أثر لجريمته النكراء سوى هي، الباب مفتوح وكأنه إيذان بالهرب في صمت، فمن ينجدها إذن؟ وهي الوحيدة والفقيرة التي لا سند لها ولا ظهر.
هربت، وهربت معها كُل فتاة من نظرات المجتمع أحياناً ومن تحرشات أبنائه أحايين أخرى، في المدرسة والجامعة، في العمل والمصالح الحكومية، في القطارات وعربات المترو، حتى بينهن وبين خيالاتهن سيجدن من يريد أن ينتهك أجسادهن وكرامتهن وكبرياءهن.
هربت دون أن تقوى على المواجهة، فهي المُنكسرة الضعيفة مقابل النفوذ والسلطة والمال، بمن تلوذ في مجتمع يلوم الفتاة المُغتصبة والمهتوك عرضها والمُتحرش بها ويبحث - حثيثاً - عن مُبرر لمن اغتصبها وهتك عرضها وتحرش بها؛ لذلك سكتت وخرست وانطوت وانكفأت على نفسها في صمت، ربما هو الصمت الأعلى صوتاً في العالم.
"9"
"هيا ليه مشيت م الشغل ما تعرفش؟" سؤال أحد الموظفين لحسين أفندي، فهو العلامة الجهبز، على الرغم من أنه كثير "الفتيْ"، لكن بالفعل لا يملك أحد إجابة على هذا السؤال سواه، فهو يعلم جيداً لماذا رحلت؟ ولكن لن يجيب ولن يقول الحقيقة.
"تلاقيها زهقت م الشغل، م انتو عارفين بنات اليومين دول ولا بيفهموا في حاجة، عايزين كل حاجة جاهزة لحد عندهم، أنا قلت من زمان البنت ما لهاش إلا بيتها وولادها، إيه يحشرهم دول في شغل الرجالة مش عارف" هكذا اعتاد أن يردد "حسين أفندي".
ــــــــــــــــــــــ
* القصة من خيال الكاتب ولا تمُتّ لمجتمعنا العربي بِصِلة.
خنع وقنع بالذل، ورضِيَ وارتضى بالمهانة، وسكت عندما سكت الجميع، وذلك كُله من أجل "لقمة العيش"، فيا لحسرة من ظل طوال عمره ثائراً على كل خطأ، شُجاعاً ضد كُل ظلم ثم لا يلبث أن يضع حذاءً من المهانة في فمهِ حتى لا يتعرض للفصل (التسري ح) من العمل، هكذا هو حالهُ اليوم.. هشاً لا يقوى على شيء، دجاجة ساكنة فلا هي تُحاول أن تطير كبقية الطيور من أقرانها، ولا هي قادرة حتى على المشي، تأكل مكانها وهي معتقدة -وهماً- أنها بعيدة عن الذبح؛ لأنها مُسالمة، ولكن لا تُدرك الحقيقة إلا والسكينُ على رقبتها في وقتٍ لا ينفعُ فيه ندم.
كان حاضراً في تلك الواقعة، شاهدها الوحيد، يحاول أن يتكتم على ذلك ولا يفصح لأحد من زملائه في العمل عن شيء، بل لم يردد ذلك حتى بينه وبين نفسه، يهربُ دائماً بأي حجة عندما توجه له الأسئلة، فجميع زملائه في المكتب يعلمون جيداً أنه آخر مَن خرج، هو اعتاد على ذلك أن يكون آخر موظف يخرج من الشركة وأول موظف يأتي لعل تلك العادة تشفع له لدى المُدير العالم، هو حتى لا يقوم بذلك من أجل "علاوة" ولا حافز، بل يتطوع بذلك فقط ابتغاء مرضاة المدير، فأذنه تعودت كل صباح أن تسمع إطراء المُدير العالم وهو واقف - مُنتظراً - على باب مكتبه: "إزيك يا حسين أفندي، يا ريت كُل الموظفين في نشاطك ده".
تلك الجُملة الساحرة التي جعلت من حسين أفندي "الكُل في الكُل" فالجميع يتوسط لدى حسين، والجميع يتملق حسين بصفته "المُقرب" للمدير، والجميع أيضاً يحتقر حسين -بداخله- بل حسين نفسه يحتقر حسين أفندي الموظف "المُنافق" هكذا يصف نفسه -جلداً- عندما يُحاورها، من صفات حسين "الحميدة" أنه صريح مع نفسه؛ لذلك لا يجد حسين حرجاً في أن يطلب "رشوة" ويقولها هكذا: "البلد دي مفيش مصلحة بتمشي فيها إلا بالرشوة، عشان كده أبجّني تجدني، وشخلل عشان تعدي، ومفيش حاجه ببلاش".
في ذلك اليوم اتصلت به زوجته تطلب "اتنين كيلو لحمة"؛ لأن عريس ابنته سيأتي اليوم للعشاء، "هو عريس الغفلة دي ما بيجيش غير عشان الأكل؟ اللي ما دخل علينا بكيلو موز حتى"، هكذا رد عليها بصوتٍ أجش، ثم أخبرها أنه سيتأخر قليلاً؛ لأن سيادة المُدير سيتأخر.
"2"
لم تتوقع أن يتم قبولها -بسهولة- هكذا في تلك الوظيفة، فهي خريجة حديثة "بالكرتونة" لو أردت أن تصف حالها "العملي" وخبراتها الوظيفية، درست التجارة - إدارة الأعمال، وتفوقت، فتقديرها جيد جداً وتحمل من الحماسة ما يدفعها فعلاً للنجاح.
لم تكن تلك الحماسة وليدة الصدفة، بل بفضل تشجيع أمها المتكرر لها: "عايزاكي يا بنتي ناجحة في حياتك، لازم تنجحي وتشتغلي عشان تساعدي أمك، من بعد ما المرحوم باباكي مات وأنا ماليش غيرك، وأنا تعبت يا حبيبتي من الخدمة في البيوت" هذا الحال الذي يُحيط بها لم يدفعها أبداً لليأس، بل على العكس تماماً كانت صامدة، قوية، تعرف وجهتها وتمتلك طموحاً يناطح السحاب.
أخبرها المُدير العام أنها في فترة تدريب لمدة شهر، وأنها ربما تتأخر بعد ساعات العمل المعتادة؛ لأنها في حاجة إلى مزيد من التدريب حتى يتم قبولها بسهولة؛ لأن هناك من يأتي ولا يستمر لعدم خبرته وكفاءته، ثلاثة أيام هي عمرها الوظيفي في هذه الشركة، وجدت فيها ضالتها التي ستنقذها وأمها من غياهب "الفقر"، طلب منها المدير أن تنتظر؛ لأن هناك ملفاً مهماً يريد أن يتناقش فيه معها بعد العمل، وأن هذا الملف ربما سيساعدها على "التثبيت" في وظيفتها بكُل سهولة؛ لأنه سيقوم برفع "تقرير" عن مدى كفاءتها في العمل، وأنها تصلح لهذه الوظيفة، فوافقت وأخبرت أمها أنها ستتأخر قليلاً في الشركة، وطلبت منها أن تتناول هي "الغداء" ولا تنتظرها وألا تنسى "دواء" القلب.
"3"
المُدير العام، يتدلى "كرشه" كامرأة في شهرها التاسع، مثيراً للاشمئزاز صوته "غليظ" فاشل، هو يعلم ذلك فجميع شهاداته جاءت عن طريق الرشاوى والمحسوبيات، يتذكر جيداً عندما كان في سنة "خامسة" ابتدائي عندما بدأت عليه بوادر الفشل، لم يستطع أن يُخبر أباه بأنه رسب في كل المواد إلا أن أباه قد عرف من مُدير المدرسة، هي مدرسة خاصة لا يدخلها إلا "أولاد الملايين" كان رده على مُدير المدرسة حينها قاسياً: "أنا جايب ابني هنا عشان يسقط؟ أنا بدفع ألوفات ليكم كُل شهر عشان تقول لي الكلام الفارغ ده؟ أنا من بكرة هاخده أوديه مدرسة تانية"، لم يفهم الطفل حينها شيئاً عندما وجد اسمه في قائمة "أوائل المدرسة" مع شهادة تقدير لتفوقه، هو الآن يعرف جيداً كيف جاءت شهادة التقدير.
اعتاد أن يشتري كُل شيء، وأن يُساوم أي شخص مقابل المال، وأن يضع المبادئ والأخلاق والمُثل العليا تحت حذاء الثروة والسُّلطة، فلم تفلت منه موظفة إما تحرشاً أو ابتزازاً، وتسقط الكثيرات تحت وطأة العوز والحاجة أمام أمواله وإغراءاته المتكررة أو تترك وظيفتها باحثة عن "مُدير" جديد ربما يحمل نفس صفات هذا المُدير الشره النتن، وهكذا دواليك.
"4"
لم تفهم - حقيقة - طبيعة تلك النظرات المُتكررة منه إلى جسدها، ربما هي مخطئة، فلم تتوقع منه شيئاً سيئاً؛ لأنه "قد باباها" هكذا كانت تُردد إلى نفسها، حتى حاول - ذات مرة - أن يُمسك بيدها - بطريقة باتت بشكل عفوي - لكنه المُكر ذاته، ارتبكت ورجعت للوراء وسرعان ما بادر بالاعتذار ليخبرها أنه "مش قصده"، اطمئنت قليلاً أو هكذا أظهرت له والموضوع "عدّى"، لكنه ترك شيئاً في قلبها نحوه، وعزمت مع نفسها أن "تاخد بالها" فيما بعد وستكون أكثر حرصاً.
لذلك عندما طلب منها المكوث لبعد العمل لم يقنعها طلبه، ألا ينتظر الملف للغد حتى نناقشه؟ ولماذا أنا فقط التي ستناقش معه الملف؟ ولكن رغبتها في تثبيت نفسها في الوظيفة وتحقيق حلم والدتها أسكنها قليلاً، فلا تريد أن تضيع تلك الفرصة بسبب مخاوف تتردد في رأسها، "هيحصل إيه يعني؟" هكذا ردّت في عقلها.
"5"
يُحاول أن يتأكد من خُلو الشركة تماماً من الموظفين، وبالفعل خرجوا ما عدا حسين أفندي، "انت هنا يا حسين؟ قاعد لحد دلوقت بتعمل إيه؟ مش هتروح؟"؛ ليرد حسين: "لتكون حضرتك محتاج حاجة كده ولا كده يا فندم؟"، "لا أنا هعمل اجتماع مع الموظفة الجديدة وهمشي، تقدر تروّح انت"، تركه وذهب إلى مكتبه حيث تجلس منتظرة.
لم يكن من طبيعة "حسين" أنه يقتنع بسهولة؛ لذلك ظن "بعقله الخبيث" أن هناك أمراً مجهولاً أراد أن يعرفه؛ لذلك لم يخرج كما طلب منه المُدير، بل ظل في مكتبه وأطفأ النور حتى لا يعتقد أحد بوجوده، وبدأ يتنصت على مكتب المُدير لعله يحظى ببعض ما يجهل.
"6"
كان قد عقد النية على الفتك ببراءتها، "تشربي حاجه؟" هكذا سألها قبل أن يتلقى منها الإجابة "ميرسي، هو حضرتك هنناقش إيه؟ عشان بس إنت عارف إني الوقت متأخر برضو وأنا سايبة ماما لوحدها"، قام من على كرسيه بشيء من البلاهة، بات واقفاً فوق رأسها كُمحقق جنائي يطلب منها "اعترافات"، وكأنه يريد أن يسمع منها أنها واقعة في غرامه تريد أن تمنحه جسدها حتى من دون أن يطلب، فأمثاله يتكبرون حتى على الطلب، فالجميع يجب أن ينصاع له بإرادتهم الكاملة وهم فرحون بذلك، هوى السلطة والنفوذ يُرهب به أصحاب النفوس الضعيفة أينما حل.
قررت أن تتمالك نفسها وألا تُبدي له أي خوف، وقرر هو الآخر أن يتمادى في سماجته، بدأ يتفحص جسدها بعينيه وكأنه يبحث فيه عن سبيل لغايته الدنيئة، لاحظت نظراته المُتكررة فبدت مُرتبكة ووجد أنه الوقت المُناسب للانقضاض، "تعرفي إن أنا أقدر أثبتك بجرّة قلم واحدة"، "يا ريت يا فندم والله أنا ربنا عالم محتاجة للشغل ده قد إيه، وكمان أنا ممكن أتدرب وأشتغل وأجتهد وهكون قد المسؤولية بإذن الله".
ضحك حتى بدت نواجزه، ثم أشعل سيجاراً ليتحول المكتب إلى "مدخنة" لم يكن الدُخان - في حقيقة الأمرِ - كثيفاً ولكن هي تراه كذلك، كادت تختنق من هذا الدخان الغريب الكريه إلى قلبها، لم يكن دُخاناً عادياً بل تتكون جزيئاته من مُكر وخُبث، ويضاهي لونه سواد غاية صاحبه، وبدا واضحاً جداً معها: "هو طريق واحد يخليكي تتثبتي في الوظيفة دي، طريقة الأوضة دي" أشار بيده نحو غرفة داخلية بجوارها حمام مكانها داخل مكتب المدير، كانت فكرة مهندس المصلحة، أن يكون بداخل مكتب المدير العام حمام وغرفة صغيرة كي يستريح فيها من عناء التعب - لم يخطر بباله ذات مرة أن تكون هذه الغُرفة وكراً للسيد المدير - وكانت الصاعقة.
انتفضت وكأنها تجسيد للغضب، "اخرس يا حيوان"، قالتها بعد أن التقطت حقيبتها مُتجهة نحو الباب، غضب فخوف ثم ضعف ويأس، هكذا لعب بها الحال لتجد المُحال، يأبى الباب أن ينفتح، فلقد أغلقه الوغد بعد أن تأكد من رحيل الجميع، لكنه نسي أن "حسين أفندي" لم يخرج ولم يذهب إلى أي مكان، بل سمع كُل الحديث الذي دار بينهما وعرف أنها صيدته الجديدة وجلس في مكتبه "قواداً" سادياً يستلذ بالذي حدث.
"أنا زي بنتك"، جملة رددتها وهي تبكي من الخوف والهلع، يقترب منها بهمجية، ينتزع عنها براءتها وكبرياءها ليتحسس بيده البذيئة ملامح أنوثتها -غصباً وقهراً- لتحاول أن تبعده بكل ما تحمل من قوة وإرادة، جملة سمعها "حسين أفندي" بوقعٍ مختلف، سُبحان من ذكرهُ بابنته، تلك التي سيحضر عريسها اليوم، فشعر لوهلة بانكسار، ربما تخيل ابنته ذات العشرين عاماً مكان هذه الفتاة، ربما فكّر في أن يذهب ليزيح عنها أو عن ابنته التي تذكرها فجأة، ولكن هيهات.
كانت قد أرهقتها المقاومة وهزها الضعفُ واليأس وجعل منها الخوف جثة هامدة، ربما ما أفقدها الوعي هو يقينها بأنه لا مفر، ملابس مُمزقة، وشعر منكوش، ووجه بدا شاحباً من أثر الاغتصاب، نعم.
جلس شرهاً مُنتشياً على الأرض، هكذا اعتاد أن يجلس بعد الفتك بضحاياه، لا يبدو عليه أنه يشعُر بالذنب، فكيف يشعر بالذنب من لا يتوقع العقاب؟ هذه الفتاة لن تُبلغ الشرطة ولن تخبر أحداً كسابقاتها، وحتى إن أخبرت مَن ستخبر؟ أمها المسكينة؟ لن يجدي ذلك معه نفعاً، فحتى لو ذهبت للشرطة فلن يُصدقها أحد، أين الشهود؟
"7"
أخذ يجري بعيداً - حتى لا يراه المدير - أو ربما هرباً من نفسه أو ضميره الذي نعاه منذ زمن، تذكر عند بداية شبابه وعهدهِ بالعمل، كيف وقف رجلاً أمام محاولة رشوة كان قد قدمها له أحد رجال الأعمال من أجل "تمشية مصلحة"، لكنه رفضها بكل صدق وحماس، ثم أسرع لُيبلغ مديره في العمل بما حدث، ليرد عليه بمكر: "انت حمار، رشوة إيه يا ابني، دي هدية، هو انت ما تعرفش الإيتيكيت ولّا إيه؟ كانت هذه هي البداية، أو بداية نهايته إذا أردت الدقة.
حتى سلك طريق الرشاوى والمُحسوبيات بل وأتقنه وأجاده، ولكن لا يخلو الأمر من "شوية" ضمير من حين لآخر، فالإنسان - بكل تأكيد - يحمل بين طياته الخير والشر، الصواب والخطأ، والجميل والقبيح، لكن مثل "حسين أفندي" وأمثاله يغلب عليهم دائماً الشر والخطأ والقُبح.
عزم على الصمت، فهو لم يتأخر في المكتب ولم يرَ شيئاً، فالمدير بنفسه طلب منه الذهاب وبالفعل ذهب ليشتري "اللحمة" التي طلبتها زوجته وتأخر هناك؛ لأن "الجزار" كان يريد أن يعطيه لحمة "ضاني"، ولكنه لا يُحبها، فالجميع يعلم ذلك حتى أنتم.
"8"
لملمت بعض ما فقدت عندما فتّحت عينيها، أخذت في البكاء لكنها لم تجد أحداً، حتى الأوراق التي على الأرض والكرسي الذي قد وقع عندما قاومته، لا يوجد شيء، مكتب منظم ومرتب، لا مكان لذلك المُدير المُجرم، ولا أثر لجريمته النكراء سوى هي، الباب مفتوح وكأنه إيذان بالهرب في صمت، فمن ينجدها إذن؟ وهي الوحيدة والفقيرة التي لا سند لها ولا ظهر.
هربت، وهربت معها كُل فتاة من نظرات المجتمع أحياناً ومن تحرشات أبنائه أحايين أخرى، في المدرسة والجامعة، في العمل والمصالح الحكومية، في القطارات وعربات المترو، حتى بينهن وبين خيالاتهن سيجدن من يريد أن ينتهك أجسادهن وكرامتهن وكبرياءهن.
هربت دون أن تقوى على المواجهة، فهي المُنكسرة الضعيفة مقابل النفوذ والسلطة والمال، بمن تلوذ في مجتمع يلوم الفتاة المُغتصبة والمهتوك عرضها والمُتحرش بها ويبحث - حثيثاً - عن مُبرر لمن اغتصبها وهتك عرضها وتحرش بها؛ لذلك سكتت وخرست وانطوت وانكفأت على نفسها في صمت، ربما هو الصمت الأعلى صوتاً في العالم.
"9"
"هيا ليه مشيت م الشغل ما تعرفش؟" سؤال أحد الموظفين لحسين أفندي، فهو العلامة الجهبز، على الرغم من أنه كثير "الفتيْ"، لكن بالفعل لا يملك أحد إجابة على هذا السؤال سواه، فهو يعلم جيداً لماذا رحلت؟ ولكن لن يجيب ولن يقول الحقيقة.
"تلاقيها زهقت م الشغل، م انتو عارفين بنات اليومين دول ولا بيفهموا في حاجة، عايزين كل حاجة جاهزة لحد عندهم، أنا قلت من زمان البنت ما لهاش إلا بيتها وولادها، إيه يحشرهم دول في شغل الرجالة مش عارف" هكذا اعتاد أن يردد "حسين أفندي".
ــــــــــــــــــــــ
* القصة من خيال الكاتب ولا تمُتّ لمجتمعنا العربي بِصِلة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mohamed-kamal-abdulaah/-_14898_b_19152900.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات